لتنمية المستديمة
لا شك أن التنمية من أكبر المشاكل التي تعاني منها
البلدان النامية، التي تشكل غالبية شعوب العالم وتحتل أكبر مساحة من الأرض
وتزخر بغابات استوائية وسهوب تعد موئل لنسبة هائلة من الكائنات الحية
الضرورية للحفاظ على التنوع الاحيائي هذا دون الحديث عن مواردها الطبيعية.
ولكن في مقابل ذلك تعاني الفقر واستنزاف للثروات مما يرهن الأجيال القادمة
ويُفقد الطبيعة توازنها، ومن اجل تجاوز هذا الشرخ الكبير جاءت فكرة
التنمية المستديمة،التي سنتعرض لها بكثير من التفصيل في هذا الفصل بحول
الله وقوته.
المبحث الأول: تطور التصورات النظرية من النمو الاقتصادي إلى التنمية المستديمة:
تعد قضية التنمية من أبرز المواضيع التي تشغل اهتمام المجتمع الدولي في الوقت الراهن، حيث فرضت نفسها على جدول الأعمال العالمي.
فبعد ما كان يُنظر إلى النمو الاقتصادي بأنه الزيادة في عملية الدخل وكفى،
ومهما اختلفت التسميات فإن المفهوم الحالي للتنمية يشمل جوانب عدة:
اقتصادية، اجتماعية، وثقافية وبيئية وأخلاقية.
إذن فالزيادة في الدخل
لا يضمن تحقيق مزيد من الماركة السياسية للأفراد أو مزيد من حرية التعبير
أو مزيدا من الأمن والعدالة، وكل هذه العوامل تمثل خيوطا في نسيج التنمية.
كما لا تعني التنمية بمفهومها الحديث والمعبر عنه بالتنمية المستديمة أن
تمنح كل الأشياء السابقة الذكر على سبيل الهبة أو الإعانة وإنما أن تتاح
لهم الفرصة بأن يتعلموا يتدربوا على كيفية تحقيقها بأنفسهم والمثل لصيني
يقول "لا تعطيني سمكة ولكن علّمني كيف أصطادها"
إذن فالتنمية لا تعني كيف تُغذي الضعفاء، وإنما تعني كيف تجعلُهم أقوياء.
إذن
ومن خلال هذا المبحث سنتطرق بحول الله إلى مفهوم النمو الاقتصادي ( المطلب
الأول )، مفهوم التنمية الاقتصادية ( المطلب الثاني )، مفهوم التنمية
المُستديمة ( المطلب الثالث ).
المطلب الأول: النمو الاقتصادي
"يعني النمو الاقتصادي حدوث زيادة مستمرة في متوسط الدخل مع مرور الزمن( )"
ومتوسط
دخل الفرد الدخل الكلي عدد السكان: أي أنه يُشير لنصيب الفرد من الدخل
الكلي للمجتمع، وهذا يعني أن النمو الاقتصادي لا يعني مجرد حدوث زيادة في
الدخل الكلي أو الناتج الكلي وإنما يتعدى ذلك إلى حدوث تحسن في مستوى
معيشة الفرد ممثلا في زيادة نصيبه من الدخل الكلي، وبالطبع فإن هذا لا
يحدث إلا إذا فاق معدل نمو الدخل الكلي ( الناتج الكلي ) معدل نمو
السكاني، فإذا حدث وكان معدل نمو الدخل الكلي مُساويا لمعدل نمو السكان
فإن نصيب الفرد ن الدخل الكلي سوف يضل ثابتا، أي أن معيشة الفرد تبقى في
مُستويات ثابتة، وفي هذه الحالة لا يوجد نمو اقتصادي.
أما إذا زاد
الدخل الكلي (الناتج الكلي ) بمعدل أقل من معدل النمو السكاني فإن متوسط
نصيب الفرد من الدخل الكلي سوف ينخفض وبالتالي يتدهور مُستوى معيشته،
وتعني هذه الحالة حدوث نوع من التخلف الاقتصادي.
ومما سبق يمكن أن نستنتج أن:
معدل النمو الاقتصادي معدل نمو الدخل الكلي ـ معدل النمو السكاني( )
وبالتالي لن يكون هذا المعدل موجبا إلاّ إذا كان معدل نمو الدخل الكلي أكبر من معدل النمو السكاني.
ولكن يلاحظ من ناحية أُخرى أن النمو الاقتصادي يعني حدوث زيادة في الدخل
الفردي الحقيقي وليس النقدي، فالدخل النقدي يُشير إلى عدد الوحدات النقدية
التي يستلمها الفرد خلال فترة زمنية مُعينة ( عادة ما تكون سنة ) مقابل
الخدمات الإنتاجية التي يُقدمها.
أما الدخل الحقيقي فهو يُساوي الدخل النقدي المُستوى العام للأسعار
أي أنه يُشير لكمية السلع والخدمات التي يحصل عليها الفرد من إنفاق دخلُه الفردي خلال فترة زمنية معينة.
فإذا زاد الدخل النقدي بنسبة مُعينة، وزاد المستوى العام للأسعار بنفس
النسبة، فإن الدخل الحقيقي سوف يظل ثابتا ولا يحدث هناك تحسن في مستوى
معيشة الفرد في هذه الحالة.
أما إذا زاد الدخل النقدي بمعدل أقل من معدل الزيادة في الأسعار ( معدل التضخم ) فإن الدخل الحقيقي للفرد ينخفض وتتدهور معيشته.
ومن ثم لن يحدث هناك نمو اقتصادي إلاّ إذا كان معدل الزيادة في الدخل
النقدي أكبر من معدل التضخم، ففي هذه الحالة يزداد الدخل الحقيقي مُمثلا
في كمية السلع والخدمات التي يُمكن للفرد أن يحصل عليها خلال الفترة محل
البحث، وعليه نلاحظ مما سبق أن:
معدل النمو الاقتصادي الحقيقي معدل الزيادة في الدخل الفردي النقدي ـ معدل التضخم.
ومن ثم لن يكون هناك هذا المعدل موجبا إلا إذا كان معدل الزيادة في الدخل النقدي الفردي أكبر من معدل التضخم.
كما يُشير التعريف السابق إلى أن النمو ظاهرة مستمرة وليست ظاهرة عارضة أو
مؤقتة، فقد تُقدم دولة غنية إعانة لدولة فقيرة فتزيد من متوسط الدخل
الحقيقي فيها لمدة عام أو عامين ولكن لا تعتبر هذه الزيادة المؤقتة نموا
اقتصاديا.
فالزيادة في الدخل يجب أن تنجم عن تفاعل قوى داخلية مع قوى
خارجية بطريقة تضمن لها الاستمرار لفترة طويلة نسبيا حتى تعتبرُ نموا
اقتصاديا.
ويلاحظ في هذا الصدد أن مفهوم النمو الاقتصادي يُركّز عن
التغيُر في الكم الذي يحصل عليه الفرد من السلع والخدمات في المتوسط دون
أن يهتم بهيكل التوزيع الدخل الحقيقي بين الأفراد أو بنوعية السلع
والخدمات التي يحصلون عليها، فالزيادة في متوسط الدخل لاتعني أن كل فرد من
أفراد المجتمع قد زاد دخلُه من الناحية المطلقة أو من الناحية النسبية،
فقد تحصل طبقة قليلة من الأغنياء على كل الزيادة في الدخل لكلي وتحرم منها
الطبقة العريضة من الفقراء وبالرغم من ذلك يزداد متوسط الدخل الفردي، بل
أكثر من ذلك فقد تنخفض الدخول المطلقة لطبقة الأغلبية من الفقراء أو ينخفض
نصيبهم النسبي من الدخل الكلي وبالرغم من ذلك يزداد متوسط الدخل الفردي.
إذن مفهوم النمو الاقتصادي لا يهتم بهيكل توزيع الدخل بين طبقات المجتمع،
ومن جهة أخرى لا يركز النمو الاقتصادي على نوعية التغيير في الإنتاج،
وعليه فإن مفهوم النمو يركز على كمية التغيير وليس على نوعية التغيير.
كما يلاحظ أن النمو الاقتصادي مفهوم غير شامل لكل ما يحدث من تغيير في رفاهية الفرد وذلك للأسباب التالية:
أ)
لا يعكس التغيرات السلبية التي تصاحب التقدم الاقتصادي المادي كزيادة درجة
التلوث وزيادة معدل الجريمة، معدل العمر، التعليم، الصحة...الخ.
ب) يركز على الجانب المادي للرفاهية ويهمل الجوانب الأُخرى كحرية الرأي والمشاركة السياسية والوعي الثقافي وغيره.
هذا يقودنا إلى البحث في مفهوم آخر ألا وهو مفهوم التنمية الاقتصادية.