مفهوم التنمية البشرية:
ظهر مفهوم التنمية عندما أطلقه رئيس الولايات المتحدة عام 1949م, بهدف
إدماج الدول النامية بالاقتصاد العالمي بعد أن نالت استقلالها السياسي. وفي
مقدمة الإعلان العالمي عن حق التنمية الذي اُعتمد ونشر في 4 كانون الأول/
1986م, ظهر تعريف التنمية البشرية على أنها: "عملية اقتصادية واجتماعية
وثقافية وسياسية شاملة تستهدف التحسين المستمر لرفاهية السكان بأسرهم
والأفراد جميعهم على أساس مشاركتهم، النشطة والحرة والهادفة, في التنمية
وفى التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها".
ووفق هذا التعريف فإن الإنسان هو الموضوع الأساسي في
التنمية البشرية, لذلك فقد كثرت الدراسات والمؤتمرات التي حاولت تحديد
مفهوم التنمية البشرية ودراسة أبعادها ومكوناتها وأنواعها وغاياتها: كإشباع
الحاجات المختلفة, ورفع مستوى المعيشة, ومستوى التعليم, وتحسين نوعية حياة
الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية .....إلخ.
وبالمختصر فإن مفهوم التنمية البشرية يستند إلى الإنسان وتكون غايته
الإنسان, فهدف التنمية البشرية هو تنمية الإنسان في مجتمع ما, من كل
النواحي: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والفكرية.
وهذه التنمية يجب أن تكون:
1 ـ تنمية شاملة: بحيث تشمل كل مناحي الحياة في البلد النامي سواء
السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وتشمل جميع المؤسسات
الحكومية والخاصة والأهلية الموجودة فيه, وتشمل كذلك جميع سكان هذا البلد
مهما اختلف جنسهم أو لونهم أو معتقدهم, وتشمل أيضاً كل فرد بذاته جسدياً
ونفسياً وروحياً. فهي لا تترك أي ناحية في هذا البلد إلا وتعمل على تطويرها
وتحسينها.
2 ـ تنمية متكاملة: تهتم بجميع الأفراد والجماعات والتجمعات والمجالات
المختلفة والمؤسسات الحكومية والأهلية من ناحية تفاعلها مع بعضها, بحيث
تكون غير متنافرة ولا متناقضة, ولا يمنع نمو أحدها نمو الآخر أو يعرقله.
3 ـ تنمية مستدامة: تسعى دائماً للأفضل, وتكون قابلة للاستمرار من
وجهة نظر اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية وثقافية. ومفهوم التنمية
البشرية المستدامة يعتبر الإنسان فاعل أساسي في عملية التنمية وليس مجرد
مستفيد من منتجات التنمية دون مشاركة نشيطة فاعلة.
وقد انتشر مفهوم التنمية في قارتي آسيا وافريقيا خاصة, حيث اُستخدم بداية
في المجال الاقتصادي ليدل على عملية إحداث مجموعة التغيرات الجذرية في
مجتمع ما بهدف إكسابه القدرة على التطوير الذي يضمن تحسين حياة أفراده,
وزيادة قدرته على الاستجابة للحاجات الأساسية والمتزايدة والمستحدثة لهؤلاء
الأفراد.
ثم انتقل مفهوم التنمية إلى السياسة فوُصف بأنه عملية تغيير اجتماعي
متعدد الجوانب غايته الوصول إلى مستوى الدول الصناعية, من حيث ايجاد نظم
سياسية تعددية على شاكلة النظم الأوروبية.
وفيما بعد تطور مفهوم التنمية وارتبط بالعديد من الحقول الأخرى,
فالتنمية الثقافية والمعرفية تسعى لرفع مستوى الثقافة وتهدف إلى رقي
الإنسان. والتنمية المجتمعية أو الاجتماعية تهدف إلى تطوير تفاعل أطراف
المجتمع جميعاً: الفرد والجماعة والمؤسسات الاجتماعية الحكومية والأهلية.
وكانت التنمية البيئية تسعى إلى الحفاظ على البيئة وترشيد استهلاك مواردها
بصورة سليمة.....إلخ.
بلادنا العربية والتنمية :
كانت بلادنا العربية ومازالت من البلاد النامية, وقد خضعت للاستعمار
الغربي, الذي استغلها ونهب خيراتها, مما جعل البلاد العربية أمام مهمة
مزدوجة تتمثل في :
1ـ التنمية التي تحتاجها هذه البلاد على كافة الصعد من جهة.
2 ـ إصلاح ما أفسده الاستعمار في هذه البلاد من جهة أخرى.
بالطبع, لا يمكن أن ننكر الفارق الكبير بين البلاد المتطورة والبلاد
المتخلفة, ولا يمكن أن نتجاهل حاجة البلاد المتخلفة أو النامية ومنها
بلادنا العربية إلى العمل الكثير لتخطي المشاكل الكثيرة التي تعاني منها
مجتمعاتها, غير أننا نريد تحديد ما هي التنمية التي تحتاجها هذه البلاد
حقيقة بعيداً عن الاستلاب والتبعية, ونريد أيضاً أن ننبه إلى ضرورة التنمية
المجتمعية ككل والتنمية الفردية للإنسان بشخصه ثانياً.
إن حجة التنمية استخدمها الغرب من أجل السيطرة واستغلال خيرات ما
سمي بلدان العالم الثالث, وقد برر حالة هذه البلاد المتردية بطريقة
استعلائية عنصرية, وأرجع سبب تردي الأوضاع عموماً فيها إلى عوامل طبيعية
تتعلق بذهنية ونفسية سكان هذه البلاد, وإلى عوامل أخرى متعلقة بظروف كل بلد
على حدة.
ومما يؤكد هذه النظرية الغربية الاستعلائية برأيهم أن البلاد
المتخلفة لم تستطع تخطي ظروفها الصعبة, رغم خروج الاستعمار منها منذ عقود,
وهي حتى الآن لم تستطع النهوض مما يؤكد نظرية قصور قدرات سكان البلاد
المتخلفة, وحاجتهم الدائمة لمن يسير بهم نحو التقدم والرفاهية المزعومة.
ومن هنا فقد عامل العالم الغربي البلاد الأخرى من منطلق الوصي على
قصّر, واستخدم أساليب ووسائل متعددة للوصول إلى زرع قناعة وصلت إلى حد
البديهة عند سكان البلاد المتخلفة, هذه البديهة مفادها أن كل ما هو غربي هو
تقدمي, وكل نظام غربي سواء كان في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع بل
وحتى في كل الأمور الصغيرة والكبيرة من اللباس والموضة ومقاييس الجمال إلى
اللغة وطرق التعبير وأساليب البحث العلمي, هو النظام الأمثل والأكمل, والذي
يجب على هذه البلاد المتخلفة إذا أرادت التقدم السعي للوصول إليه بكل ما
تملك من أدوات ووسائل, حتى لو أدى بها هذا الأمر إلى التصادم مع جذورها
وإلغاء هويتها الخاصة وثقافتها الحضارية. لذلك فقد سيطرت على العالم مفاهيم
غربية في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والصحة والعلم وطرق المعيشة وعلاقات
الأفراد وكل شيء, صارت هي القمة. بالرغم من أن التجربة قد أثبتت ضرر كثير
من هذه المفاهيم, ونتائجها الكارثية على المجتمعات الغربية نفسها. لكنها
مازالت إلى الآن هي النموذج الأكمل في نظر سكان البلاد المتخلفة.
وعلى الرغم من أن الغرب نجح إلى حد كبير في ترسيخ هذه الصورة
النمطية في الأذهان, فإنه لم يكتفِ بذلك فقط, بل حاول بكل الوسائل التدخل
في شؤون الدول النامية, والتحكم بها, والسيطرة عليها, واستغلال خيراتها,
بحجة رغبته في تنميتها على طريقته هو, ووفق تصوره هو, وعلى نموذجه هو,
بطريقة متناقضة تتغير حسب الظروف المحيطة بكل بلد. وقد وجد تعاوناً من
أبناء هذه البلاد أنفسهم, فتَحتَ مسمّى تنمية النظام السياسي وإرساء
الديمقراطية مثلاً, وجدنا أن الغرب قد استخدم طرقاً غير ديمقراطية في فرض
ما أسماه ديمقراطية, كما فعل في العراق وأفغانستان, وقد حارب خيارات الشعوب
عندما أوصلت الديمقراطية مجموعات إلى الحكم لا يرغب بها, اختارها الشعب
بإرادته فاندفع إلى معاقبة الشعب الفلسطيني على اختياره الديمقراطي. ومازال
يحاول إثارة المشاكل في كل مكان بحجة حقوق الإنسان التي لا يراعيها هو
نفسه.
طبعاً, فإن هذا لا يعني أن بلادنا العربية ليست في حاجة إلى
التنمية, وأنها لا تعاني من مشاكل هائلة تمنعها من التقدم والنهوض, ولكننا
يجب أن ننتبه إلى أن مجرد استخدامنا لعبارات كعبارة اللحاق بركب الدول
المتطورة, أو بحثنا عن الطرق التي تمكننا من الوصول لتكرار ما استخدمه
الغرب في نظمه المختلفة سواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية
والعلمية ......إلخ , هو نوع من القصور في الرؤية, هذا القصور يتمثّل في
أننا نسعى لتقليد نموذج مفروض, أثبتت التجربة أنه يعاني من مشاكل كثيرة على
الرغم من كل المكاسب التي حققها.
ولنضرب مثالاً على ذلك من الإقتصاد: فالنظم الإقتصادية الغربية
أنتجت مشاكل كبيرة بالنسبة للعالم ككل وليس عندها فقط, فبغض النظر عن
الانهيار الإقتصادي الذي تمر به الشركات الكبرى العالمية، والبطالة
المستشرية في كبرى الدول الصناعية، والكساد التجاري, نجد أن الغرب يستمر في
محاولة فرض نظمه الاقتصادية التي أنتجت كل هذه المشاكل عنده على البلاد
النامية, ولأن هذه البلاد لا ترى إلا الجانب المضيء من هذه النظم فإنها
ترضخ لسياسات الدول الغربية, وحتى عندما ترى المساوئ لا تستطيع فعل شيء
أمام هذا الطوفان الغربي لأنها لا تملك أمر نفسها فعلاً.
التنمية والخصخصة:
وفق شهادة لجيمس سبيث الذي عمل مديراً لبرنامج الامم المتحدة للتنمية في
مقابلة له مع جريدة اللوموند في عام 1996م، قال فيها: إن "الفاصل بين
البلدان الغنية والعالم الثالث يستمر في الاتساع. واستنكر سبيث أسطورتين:
الأولى وتتحدث عن أن العالم الثالث سيستفيد من النمو المتواصل، والثانية
التي تتحدث عن القطاع الخاص كحل معجز لمشاكل التنمية .
وأوضح السيد سبيث: هناك أسطورة أولى يجب التغلب عليها، تتعلق
بالعالم النامي، وهي الزعم بأنه سينتقل من حسن إلى أحسن بفضل عولمة
الاقتصاد في ظل قيادة الدول الخمس العملاقة. والحقيقة أن دخل الفرد الواحد
في أكثر من مئة دولة هو اليوم أقل مما كان عليه قبل خمس سنوات. وبشكل أوضح
فإن 1,6 مليار إنسان يعيشون اليوم في مستوى أسوأ مما كانوا عليه. ففي بداية
الثمانينات وخلال جيل ونصف اتسعت الهوة بين الدول الأكثر فقراً التي تشكل
20 % من العالم، والدول الأكثر غنى التي تشكل 20 % منه. أما اليوم فإن
الفارق هو واحد إلى ستين، على الرغم من أن الثروة العالمية قد ارتفعت بشكل
عام. ويقع العالم الثالث ضحية أسطورة مؤذية أخرى وهي الاعتقاد بأن القطاع
الخاص يتضمن الترياق لكل العالم. وفيما عدا عولمة التبادل، لا ينتظر من
الاستثمارات الخاصة أن تقود بشكل طبيعي إلى خلق "عالم متساو". وليس هناك من
صلة بين احتياجات بلد ما والاستثمارات الأجنبية المباشرة داخل هذا البلد.
وكلمات الخصخصة، وتحرير الاقتصاد، والتحلل من القوانين واللوائح، وهي
الكلمات السائدة في عالم الليبرالية في نهاية هذا القرن هي التي ستسهل
عمليات النمو، ولكنه نمو يصاحبه فقر كبير وعدم مساواة تزداد عمقاً، ومعدلات
بطالة في حالة ارتفاع دائم".
تنمية الإنسان والمجتمع مطلب أساسي :
التنمية في اللغة العربية كلمة مشتقة تعني الزيادة والانتشار, ومن هنا نعرف
أن التنمية يجب أن تعني زيادة ورفعة وتحسين ما هو موجود أصلاً ونشره
وتعديه إلى غيره, بحيث يساهم في رفعة غيره وتحسينه أيضاً.
وبما أن التنمية كمفهوم تهدف إلى تحسين حياة الإنسان وتكون غايتها
الإنسان كما بيّنا سابقاً, فإن هذا يؤدي أيضاً إلى أن الإنسان هو أساس
التنمية ووسيلتها وغايتها.
فالتنمية إذاً يجب أن تتجه بالدرجة الأولى إلى تنمية هذا الإنسان
جسدياً ونفسياً وروحياً وأخلاقياً, وعملياً من جهة تعليمه وزيادة خبراته
وتأهيله تأهيلاً مناسباً للقيام بالعمل المطلوب منه. ولا تقتصر مسؤولية هذه
التنمية على الحكومة والدولة فقط بل هي مسؤولية الإنسان نفسه وعلى الدولة
تأمين وسائل هذه التنمية.
إن الإنسان في البلاد المتخلفة عموماً يعاني من فقدان الاهتمام,
والمقصود بالاهتمام هنا هو الشعور بالمسؤولية تجاه نفسه أولاً وتجاه مجتمعه
وأمته ثانياً, ووفق وجهة نظري فإن أي تنمية منشودة وأي تقدم مرتجى يجب أن
يبدأ من الإنسان وذلك عن طريق إثارة اهتمامه بنفسه وزرع الثقة فيه ومعرفته
بما يملك من إمكانات ورغبته بتطويرها وتنميتها.
وأعتقد أننا في حاجة ماسة إلى تطبيق الأخلاق في سلوكياتنا, وحسن
التعامل مع الناس قولاً وعملاً, وتقبل الرأي المخالف, والبعد عن الطائفية
والاستعلاء. ونشر ثقافة المسؤولية بين الناس. تلك الأخلاق التي لم يبقَ
منها بيننا إلا الإسم, حتى صرنا والخُلق الحسن على طرفي نقيض للأسف, فالمهم
هو تفعيل الأخلاق, وممارستها عملياً في حياتنا, نبدأ كلٌ بنفسه أولاً,
وبتأثيره على غيره ثانياً, حتى يتعود الناس على السلوك الفاعل الهادف,
عندها سينهض المجتمع لا محالة, وستتحقق التنمية المنشودة. وسيصل المجتمع
لمرحلة من الوعي واستيعاب حاجاته الفعلية, يكون فيها قادراً على سن قوانين
وايجاد نظم إجتماعية تضمن لـه الكرامة والرفاهية, بطرق سلمية بعيدة عن
العنف, أو أي تدخل أجنبي خارجي.
إن التنمية الاجتماعية تهدف في الدرجة الأولى إلى تطوير التفاعلات
المجتمعية بين أطراف المجتمع, ونقول أطراف لأن المجتمع هو مجموعة من
الأفراد يتفاعلون مع بعضهم بطرق مختلفة, عن طريق المؤسسات والعمل الجماعي
الهادف إلى رفعة الأمة, ولن يتم ذلك دون انسجام وتعاون بين هذه الأطراف
جميعها, هذا التعاون لن يثمر ما لم تترسخ في المجتمع قيم سلوكية نهضوية
هامة وأساسية, قائمة على أساس التعاون بين أفراد المجتمع جميعاً, وتضع نصب
أعينها أن هذا المجتمع يتسع للجميع على اختلاف اتجاهاتهم وقيمهم وأعراقهم
وأجناسهم.
وفي النهاية إن ما يدعو للتفاؤل هو وجود فئة من المفكرين والمثقفين
سلموا من عوامل الاستلاب الحضاري, فآمنوا بالإنسان كقيمة إنسانية روحية لا
مادية, وعملوا ومازالوا بكل جهدهم لتوعية الناس, وحثهم على العمل لتنمية
قدراتهم بما يخدم البشرية كلها, وتنبيههم إلى حقيقة النظريات الغربية,
القائمة على تقديس الفرد كشيء مادي, همه المصلحة بغض النظر عن الكوارث التي
من الممكن أن يسببها في طريق سعيه للحصول على اللذة والرفاه, هذه النظرة
التي تقود العالم اليوم بأسره إلى الهاوية, مما يضاعف مسؤوليتنا كأفراد
وكأمة أمام خالقنا وضميرنا.