محمد بن عبد الله ابن مالك
(600 ـ 672هـ/1204 ـ 1274م)
جمال الدين، محمد بن عبد الله ابن محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الأندلسي، نزيل دمشق.
من
أشهر نحاة المئة السابعة، إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق، وأثره في متأخري
النحاة كأبي حيان الأندلسي (ت745هـ) وابن هشام الأنصاري (ت761هـ) والمرادي
(ت749هـ) وابن عقيل (ت769هـ) وغيرهم لا يقل أثراً عن سيبويه فيمن جاء بعده،
بل إن نحوَ ابن مالك يعد علامة فاصلة في تاريخ النحو العربي منهجاً وعبارة
وشواهد وطرائق استدلال، ولقد ظل النحويون من بعده يدورون في فلك مصنفاته
تدريساً وشرحاً، ولاسيما «الألفية» و«التسهيل».
ولد ابن مالك بجَيّان، من مدن الأندلس الوسطى، لأسرة عربية طائية لا يُعرف من أمرها شيء، ولا يُعرف أيضاً عن نشأته الأولى شيء.
وأغلب
الظن أنه بدأ حياته العلمية بحفظ القرآن الكريم ودراسة القراءات وعلوم
الدين والنحو واللغة، وفي كتب التراجم ما يشير إلى أنه أخذ العربية في
بلاده عن ثابت بن خيّار الكلاعي المقرئ (ت 628هـ)، وأنّه حضر عند أبي عليّ
الشلوبين النحوي المشهور [ر] (ت 645هـ) مدة قصيرة.
ولم تكن أحوال
الأندلس أيام نشأة ابن مالك في هدوء واستقرار مما شجعه على الارتحال إلى
المشرق، ولعل هذا الارتحال كان وراءه أيضاً طلب العلم وأداء فريضة الحج.
وكان
ارتحاله عن الأندلس في حدود سنة 630هـ أو قُبَيْلَ ذلك، فاتجه إلى مصر،
ولم يُقِمْ بها، ثمّ إلى الحجاز لأداء فريضة الحجّ، وبعد ذلك يمّمَ وجهه
شَطْرَ الشام، فمرَّ بدمشق وأخذ فيها عن طائفة من علمائها، كالسخاوي،
النحوي المقرئ (ت 643هـ)، ومكرَّم بن محمد (ت 635هـ)، والحسن ابن صَبّاح (ت
632هـ)، ثمّ غادرها إلى حلب، فحضر حلقة ابن يعيش النحوي (643هـ)، وجالس
تلميذه ابن عَمْرون (ت 649هـ)، وظلَّ بها حتى استكمل دراسته وذاعَ صيته،
وتصدّر بها لإقراء العربية والقراءات، وأمّ بالسلطانيّة؛ وهي المدرسة التي
أسسها الملك الظاهر غازي ابن صلاح الدين (589 -613هـ)، وألمحت المصادر إلى
أنه نظم في حلب أرجوزته النحوية المطولة «الكافية الشافية».
ثم
عاوَدَهُ الحنين إلى دمشق، فغادر حلب ماراً بحماة، فأقام بها مُدَيْدَة،
وألف بها «المقدّمة الأسديّة»، وانتهى به المطاف أخيراً في دمشق، حيث استقر
فيها عقوداً يدرّس ويصنّف، فتكاثر عليه الطلبة وطارت شهرته، وصار يُضرب به
المثل في دقائق النحو وغوامض التصريف والقراءات وغريب اللغات وأشعار
العرب، وفي دمشق تصدّر في الجامع الأموي، وولي مشيخة المدرسة العادلية
(بالقرب من الجامع الأموي، وجوار المكتبة الظاهرية)، وكانت هذه المدرسة إلى
وقت ليس ببعيد مقراً لمجمع اللغة العربية، وسَكَنُ ابن مالك باقٍ بها إلى
اليوم، على يمين الداخل، يُصْعَدُ إليه ببضع درجات.
ومن أبرز
تلامذته الذين ذاع صيتهم: الإمام النووي (ت 676هـ)، وشرف الدين اليونيني (ت
695هـ) والبهاء بن النحاس (ت 698هـ) والبِرْزالي (ت 739هـ) وبدر الدين بن
جماعة (ت 733هـ) وابن أبي الفتح البعلي (709هـ) والعلاء بن العطار (ت
724هـ) وابنه بدر الدين محمد بن مالك المعروف بـ«ابن الناظم» (ت 686هـ) وهو
نحوي مشهور لا يقلّ ذكاءً عن والده، وهو أوّل من شرح ألفية والده، وأكمل
الشرح الذي لم يتمّه والده على «التسهيل».
توفي ابن مالك في دمشق، ودفن في سفح جبل قاسيون في المقبرة التي تعرف بـ «مقبرة الروضة» وقبره باقٍ فيها إلى اليوم.
وقد
أجمعت آراء العلماء على الإشادة بعلمه وأخلاقه، فقد ذكر الذهبي أنه «أربى
على المتقدمين، وأنه كان إماماً في القراءات وعللها، وأما في اللغة فكان
إليه المنتهى، وأما في النحو والتصريف فكان بحراً لا يُجارى»، ووصفه تلميذه
النووي بأنه «إمام أهل اللغة والأدب في هذه الأعصار بلا مدافعة»، ونُقل عن
ابن القَوْبع قوله: «إنّ ابن مالك ما خلَّى للنحو حرمة»، وأما ما قاله أبو
حيان الأندلسي معرضاً به: «بحثت عن شيوخه فلم أجد له شيخاً مشهوراً يعتمد
عليه ويرجع في حل المشكلات إليه…» فما هو إلا من باب الحسد، ولاسيما أن أبا
حيان نفسه اعترف غير مرة بفضل ابن مالك، وانكب على عدد من مصنفاته فشرحها.
وبلغ من علوّ منزلته أنه كان إذا صلى في العادلية يشيعه قاضي القضاة ابن خلكان إلى بيته تعظيماً له.
وقد
رُزق ابن مالك مقدرة عجيبة على النظم في علوم العربية والقراءات، أما
مؤلفاته النثرية فامتازت بوضوح في العبارة وجنوحٍ إلى ما يمكن وصفه
بـ«تسهيل النحو» وتقريبه إلى الأفهام.
ولعل أبرز ما يميز ابن مالك
أنه صاحب اختيارات في النحو، إذ لم يكن يرتضي من مذاهب النحويين وأقوالهم
إلا ما وَقر في نفسه أنه الأقرب أو الأجود، ولذا كان كثير المناقشة للأوائل
كسيبويه والمبرد والأخفش والفراء والزجاج والفارسي معترضاً عليهم بأدلّة
من السماع والقياس.
وابن مالك من النحاة الذين فتحوا الباب على
مصراعيه للاستشهاد بالحديث النبوي في بناء القواعد والاستدراك به على
النحويين، وكان النحاة من قبل يعرضون عن الحديث في باب الاستشهاد.
وامتازت
مصنفاته بغزارة الشواهد الشعرية، ومن المثير للانتباه أن طائفة من هذه
الشواهد لم تكن معروفة قبل ابن مالك، مما جعل النحاة يتحيرون في أمرها،
والناظر في مؤلفاته يقف على مصطلحات نحوية ابتكرها ابن مالك مما يشهد له
بالبراعة، وأنه أربى على المتقدمين حقاً.
ولقد أولع المشارقة
ولاسيما نحاة مصر والشام بمؤلفاته، فما من نحوي إلا درّس كتبه، أو شرح
بعضاً منها، وما من نحوي إلا جعل من مؤلفات ابن مالك عمدته في التأليف
سواءٌ صرّح بذلك أم لم يصرّح.
والناظر في مصنفات ابن مالك يراها
موزعة على النحو والصرف واللغة والقراءات، بعضٌ منها يندرج تحت ما يسمى
بـ«المتون»، وبعضها الآخر غالباً ما يكون شرحاً لهذه المتون للمؤلف نفسه،
وهذا النمط من التأليف من سمات النزعة التعليمية التي صَدَر عنها ابن مالك.
وقد عدد القدماء له نحواً من ستة وأربعين مؤلفاً، طبع منها ما يزيد على النصف، وتكفي الإشارة ههنا إلى المطبوع:
ففي
مقدمة مؤلفاته النحوية والصرفية كتاب «تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد» وهو
من أشهر المتون النحوية التي عُني بها الشراح وأولهم ابن مالك نفسه بيد أنه
لم يتمّه، وهذا الشرح أوسع مصنفات ابن مالك، أودعَ فيه جلّ اختياراته
وآرائه وشواهده، والشرح غني بذكر آراء النحاة ومذاهبهم، وقد أتمه من بعده
ابنه بدر الدين، وهو مطبوع في أربعة أجزاء، ومن أشهر شروح التسهيل وأوسعها
كتاب «التذييل والتكميل» لأبي حيان الأندلسي.
أما «الخلاصة الألفية»
فقد اشتهرت بـ«الألفية»، وهي أكثر المنظومات النحوية تداولاً حتى أيامنا
هذه، عدّتها ألف بيت، صنفها لولده «محمد الأسد»، وهي اختصار لمنظومته
الكبرى «الكافية الشافية» التي تقع في 3000 بيت، وشُرّاح الألفية كُثُر،
أشهرهم ابن الناظم (بدر الدين بن مالك)، وأبو حيان، وابن هشام في كتابه
المشهور «أوضح المسالك» والمرادي، وابن عقيل وغيرهم.
أما «الكافية الشافية» فقد شرحها ابن مالك نفسه، وقد طبعت في خمسة أجزاء.
وله أيضاً «عمدة الحافظ وعدة اللافظ» وهو متن نثري صغير الحجم، شرحه ابن مالك وسماه «شرح عمدة الحافظ» طبع في مجلدٍ واحد.
وله
أيضاً «شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح» وهو كتاب صغير
الحجم أعرب فيه ما يزيد على مئة من الأحاديث المشكلة التي ضمها «الجامع
الصحيح»، و«سبك المنظوم وفك المختوم» شبيهٌ بالتسهيل، و«إيجاز التعريف في
علم التصريف»، و«التعريف في ضروري التصريف»، و«الفوائد النحوية» و«فتاوى في
العربية».
ومن مؤلفاته اللغوية المطبوعة: «إكمال الإعلام بمثلث
الكلام»، وهو شرح لمنظومته «الإعلام بمثلث الكلام» و«الإرشاد في الفرق بين
الظاء والضاد»، و«الاعتماد في نظائر الظاء والضاد»؛ وهو شرح لكتاب الإرشاد،
و«الاعتضاد في الفرق بين الظاء والضا»«؛ وهو منظومة شرحها المؤلف،
و«الألفاظ المختلفة في المعاني المؤتلفة»، و«تحفة المودود في المقصور
والممدود»، و«رسالة في الاشتقاق»، و«ثلاثيات الأفعال»، و«ذكر معاني أبنية
الأسماء الموجودة في المفصل»، و«لامية الأفعال».
وله في القراءات
منظومتان مطوّلتان مازالتا مخطوطتين، أولاهما قصيدة دالية اشتهرت باسم
المالكية (منها نسخة في مكتبة الأسد بدمشق)، والثانية تعرف باسم اللامية.
نبيل أبو عمشة
مراجع للاستزادة:
ـ ابن مالك، تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، تحقيق محمد كامل بركات (دار الكاتب العربي، مصر 1967).
ـ ابن شاكر الكتبي، فوات الوفيات، تحقيق إحسان عباس (دار صادر، بيروت، د.ت).
ـ السيوطي، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (المكتبة العصرية، 1998).
الموقع
