اقسام الناس يوم القيمة قال تعالى (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ(
مشاهد من اليوم العظيم
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ(
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه مشاهد من اليوم العظيم، الذي أوله البعث من القبور (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ( إلى أن ينقسم الناس إلى فريقين لا ثالث لهما (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ(.
يوم يفتتح أوله بالحمد لقيوم السموات والأرض (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ( ويختم آخره بالحمد (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(.
البعث بعد الموت
(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(
إن البعث والنشور بعد طول المكث في القبور أول مشهد من مشاهد ذلك اليوم العظيم، فهو المسألة العظمى والعقبة الكبرى – بعد توحيد الله والإيمان به – التي تحدثت عنها الكتب المنزلة والرسل المبعوثة لجميع الأمم، من أولهم نوحٍ ( إلى خاتمهم محمد (.
ولا يعلم مدة مكث الناس في هذه القبور إلى الله تعالى، فبعد انقضاء هذه المدة المقدرة يأمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ(، يقومون لرب العالمين حفاة عراة غرلاً ليس معهم أي شيء إلا الأعمال.
فإذا نفخ في الصور نفخة البعث والنشور خرجوا من قبورهم إلى ربهم مسرعين إلى الداعي (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ(، «(إِنْ كَانَتْ( أي: ما كانت البعثة من القبور (إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً( ينفخ إسرافيل في الصور، فتحيا الأجساد، (فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ( الأولون والآخرون، والإنس والجن ليحاسبوا على أعمالهم»().
فتشقق الأرض عنهم فيخرج الناس جميعًا من قبورهم على سماع تلك الصيحة العظيمة المفزعة فتراهم مسرعين إلى إجابة الداعي إلى الموقف العظيم (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ(.
ويكون أول من ينشق عنه القبر في ذلك اليوم هو نبينا محمد عليه الصلاة والسلام؛ لقوله (: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع» رواه مسلم.
ويبعث الناس من قبورهم على ما ماتوا عليه، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشرًا، مصداقًا لقول الرسول (: «يبعث كل عبد على ما مات عليه» رواه مسلم.
فإن كان من أهل الصلاح والاستقامة فيبعث على ما كان عليه من عمل، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً كان مع رسول الله ( محرمًا فوقصته ناقته فمات فقال رسول الله (: «غسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا» متفق عليه.
وعلى العكس، فإن كان من أهل الغواية والفجور فإنه يبعث على عمله الفاسد في الدنيا، قال تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ( «فكما كانوا في الدنيا في طلب المكاسب الخبيثة كالمجانين، عوقبوا في البرزخ والقيامة بأنهم لا يقومون من قبورهم، أو يوم بعثهم ونشورهم (إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ( أي: من الجنون والصرع».
وقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز لأصحاب العقول المنكرين للبعث بأن يتفكروا في بداية خلقهم ونشأتهم الأولى كيف كانت، فالذي خلقهم أول مرة قادر على إعادتهم مرة ثانية، وأنه من عجز عن الثانية كان عن الأولى أعجز وأعجز، قال تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(.
فيا أصحاب العقول «هل يُسيِّغ العقل أن ينفض سوق هذه الحياة وقد نهب من نهب، وسرق من سرق، وقتل من قتل، وبغى من بغى، وتجبر من تجبر ثم لا ينال أحد من هؤلاء عقابه ؟ وهل يسيغ العقل أن يبقى المجرمون في أمن وعافية وأمان في العاقبة ؟ لا وربك ثم لا. وكلا وعزة الله وجلاله ثم كلا. لابد من موقف ويوم يجزى فيه المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، هذا هو نهج العقل والإيمان، والعلم والحكمة برهان ذلك: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ(»().
كما ذكر سبحانه وتعالى قول المكذبين بالبعث والنشور من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين وغيرهم، مع توعدهم وتهديدهم في آيات كثيرة.
قال تعالى: (وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا * فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا(.
وقال تعالى: (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ(.
وقال تعالى: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(.
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ(.
فمساكين هم الذين «لا يؤمنون بالآخرة والذين يكذبون بيوم الدين، يعيشون في بؤس وشقاء لا أمل لهم ولا رجاء، لا يرجون عدلاً في الجزاء ولا عوضًا عما يلاقون في الدنيا من عناء.
الذي لا يؤمن بيوم الحساب لا يعدو نظره حياة الدنيا القصيرة القاصرة في حدود أرضه الضيقة، ومسافة عمره القصير، فهو من ضيق إلى ضيق ومن بؤس إلى مسكنة.
لقد ضلوا وأضلوا، وما ضلوا إلا بما نسوا يوم الحساب، وما اجترءوا على حرمات الله وأفسدوا في أرض الله، وما ظلموا وتظالموا إلا لأنهم كانوا لا يرجون حسابًا»().
وصدق الله العظيم القائل: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا(.
«أما المصدقون بيوم الدين، والذين هم من عذاب ربهم مشفقون، فاستقاموا على الحق والتوحيد، ونبذوا الشرك وأصلحوا عملهم، وأخلصوا لربهم (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(.
يحملهم إيمانهم باليوم الآخر والتصديق بلقاء ربهم، يحملهم على الصبر والتحمل، والبذل والإحسان، لا يبتغون من أحد غير الله جزاءً ولا شكورًا (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا(.
وما ثبتت أقدام المجاهدين، ولا تبينت مواقع الشهداء إلا بمقدار إيمانهم بلقاء الله وتصديقهم بعظم جزائه: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(»().
وصدق الله سبحانه وتعالى إذ قال: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(.
الحشر
(وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا(
قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(، جمعهم الرب سبحانه وتعالى ليجازيهم على أعمالهم التي عملوها في الدنيا، فإن الله سبحانه وتعالى «لا يعجزه شيء، وحيثما هلك العباد فإن الله قادر على الإتيان بهم، إن هلكوا في أجواء الفضاء، أو غاروا في أعماق الأرض، وإن أكلتهم الطيور الجارحة أو الحيوانات المفترسة، أو أسماك البحار، أو غيبوا في قبورهم في الأرض، كل ذلك عند الله سواء (أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(»().
يحشرون إلى ربهم جميعًا، لا يتأخر منهم أحد ولا يمتنع، قال تعالى: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا( فقد أحاط بهم ربهم وأتى بهم حيثما كانوا.
وفي هذا اليوم العظيم يحشر المؤمنون والكافرون على حد سواء، لكن شتان بين الفريقين في الحشر، قال تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا(.
ويقول سبحانه وتعالى عن حشر الكافر المعاند يوم القيامة: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا(، وعن أنس ( أن رجلاً قال: يا نبي الله، كيف يحشر الكافر على وجهه؟ قال: «أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرًا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟» رواه البخاري ومسلم.
فيحشر الناس على أرض غير هذه الأرض، قال تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ( قال ابن مسعود (: «تبدل الأرض أرضًا كأنها الفضة لم يسفك عليه دم حرام، ولم يعمل عليها خطيئة».
وعن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله ( يقول: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء (أي خالصة البياض) كقرصة النقي (أي النقي من الغش) ليس فيها علم لأحد» رواه البخاري ومسلم.
أما الناس فيحشرون في هذا اليوم الرهيب حفاة عراة كما ولدتهم أمهاتهم، (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ(، ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله ( يقول: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً» قلت: يا رسول الله، الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: «يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض» رواه البخاري ومسلم.
مصداقًا إلى قول الله تعالى: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ( أي: كل نفس مشغولة بنفسها ومهتمة لخلاصها، ولا تلتفت إلى أحد غيرها.
ويحشر في هذا اليوم – مع الإنس والجن والملائكة – البهائم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأما البهائم فجميعها يحشرها الله سبحانه كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ(، وقال تعالى: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ(، وقال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ(، وحرف (إذا) إنما يكون لما يأتي لا محالة»().
الشفاعة العامة
(عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا(
عن أبي هريرة ( قال: «أتي النبي ( يومًا بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون بمَ ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه، ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم فيأتون آدم فيقولون: يا آدم، أنت أبونا أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى الأرض، وسماك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربنا، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسًا لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله، وكلمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولم يغضب بعده مثله – ولم يذكر ذنبًا – نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد (، فيأتون فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه لأحد غيري من قبلي، ثم قال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: يا محمد، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر» رواه البخاري ومسلم.
«وهذه الشفاعة العامة لأهل الموقف إنما هي ليعجل حسابهم ويراحوا من هول الموقف، وهي الخاصة به ( وقوله: «أقول: يا رب أمتي أمتي» اهتمام بأمر أمته وإظهار محبته فيهم وشفقته عليهم، وقوله: «فيقال: يا محمد، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه» يدل على أنه شفع فيما طلب من تعجيل حساب أهل الموقف، فإنه لما أمر بإدخال من لا حساب عليه من أمته، فقد شرع في حساب من عليه حساب من أمته وغيرهم، وكان طلبه هذه الشفاعة من الناس بإلهام من الله تعالى لهم، حتى يظهر في ذلك اليوم مقام نبيه ( المحمود الذي وعده؛ ولذلك قال كل نبي: لست لها، لست لها، حتى انتهى الأمر إلى محمد ( فقال: «أنا لها»().
الحساب
(وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا(
هذا هو اليوم الذي كان يخشاه المؤمن ويشفق منه وغفل عن ذكره الكافر والمنافق والفاجر، وهو اليوم الذي ينتظره المظلوم للقصاص من ظالمه والمقتول – بغير حق – من قاتله.
والقاضي في ذلك اليوم هو الله العظيم رب السموات والأرض الحكم العدل (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(.
وها هي الأمم جاثية على الركب وهم في هول عظيم وفزع ينتظرون الحساب، (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(.
وها هو الكافر المتمرد على ربه الطائع لشيطانه في موقف الذل والهوان (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(.
عن جابر ( قال: «لما رجعت إلى رسول الله ( مهاجرة البحر قال: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ فقال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائزها تحمل على رأسها قلة من ماء فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كفيه ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غُدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدًا؟ قال: يقول رسول الله (: صدقت صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم» رواه ابن ماجه، وهو في صحيح الجامع للألباني.
قال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا(. «(وضع الكتاب) أي كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير، (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ( أي من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة، (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا( أي يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا (مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا( أي لا يترك ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا، ولا عملاً وإن صغر، إلا أحصاها، أي ضبطها وحفظها.. (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا( أي من خير وشر.. (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا( أي فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعًا، ولا يظلم أحدًا من خلقه بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم، ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي، ثم ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين، وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم»().
قال تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(.
يقول ابن كثير رحمه الله: «(وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا( أي: نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة إما بيمينه إن كان سعيدًا أو بشماله إن كان شقيًّا، (مَنْشُورًا( أي مفتوحًا يقرؤه هو وغيره فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره».
«فتوهم نفسك يا أخي إذا تطايرت الكتب، ونصبت الموازين، وقد نوديت باسمك على رؤوس الخلائق: أين فلان ابن فلان، هلم إلى العرض على الله تعالى، وقد وكلت الملائكة بأخذك فقربتك إلى الله، لا يمنعها اشتباه الأسماء باسمك واسم أبيك، إذ عرفت أنك المراد بالدعاء إذ قرع النداء قلبك فعملت أنك المطلوب فارتعدت فرائصك واضطربت جوارحك وتغير لونك، وطار قلبك، وتُخطي بك الصفوف إلى ربك للعرض عليه والوقوف بين يديه وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم وأنت في أيديهم وقد طار قلبك واشتد رعبك لعلمك أين يراد بك.
فتوهم نفسك وأنت بين يدي ربك في يدك صحيفة مخبرة بعملك لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبأة أسررتها وأنت تقرأ ما فيها بلسان كليل وقلب منكسر، والأهوال محدقة بك من بين يديك ومن خلقك، فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكركها؟ وكم من سيئة قد كنت أخفيتها قد أظهرها وأبداها؟ وكم من عمل ظننت أنه سلم لك وخلص فرده عليك في ذلك الموقف وأحبطه بعد أن كان أملك فيه عظيمًا؟ فيا حسرة قلبك، ويا أسفك على ما فرطت فيه من طاعة ربك»().
عندها يأخذ المؤمن كتابه بيمينه ويحاسب حسابًا يسيرًا، ويدخل الجنة فرحًا مسرورًا (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا( وها هو يصيح في أهل المحشر بأعلى صوته – بعد أن يرى ما في صحيفته من أعمال صالحة – (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(.
أما الكافر فيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره فيدعو بالويل والثبور بعد أن رأى في صحيفته ما يندى له الجبين من الكفر والعناد والفسوق والعصيان (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا(، وقال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(.
مثل وقوفك يوم العرض عريانًا
مستوحشًا قلق الأحشاء حيرانًا
والنار تلهب من غيظ ومن حنق
على العصاة ورب العرش غضبانًا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل
فهل ترى فيه حرفًا غير ما كانا
وصدق الله تبارك وتعالى: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(.
ففي هذه الحالة ينكر الكافر والفاجر ما عمل من السيئات والآثام، فيختم الله تعالى على فيه ويستنطق جوارحه بما عمل (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(.
عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله ( فضحك فقال: «هل تدرون لم أضحك؟» قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: «من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب، ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، فقال: فيقول: فإن لا أجيز على نفسي شاهدًا مني، قال: (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا( وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، قال: فيقول بعدًا لكن وسحقًا فعنكن كنت أناضل» رواه مسلم.
ويسأل الله تعالى –في ذلك الموقف العظيم– المشركين والكفار عن شركهم وكفرهم (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ(.
ويسأل الإنسان أيضًا عن أعماله التي عملها في هذه الدنيا.
قال رسول الله (: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن عمله ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» رواه الترمذي والألباني في صحيح الجامع.
ويسأل كذلك عن نعم الدنيا (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ(.
ويسأل أيضًا عن العهود والمواثيق (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً(.
ويسأل عن السمع والبصر والفؤاد (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً(.
وأول ما يحاسب عليه العبد في هذا المشهد الكبير – من حقوق الله – الصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر» رواه الترمذي والألباني في صحيح الجامع.
كما أن أول ما يقضي فيه بين الناس: الدماء؛ لقول
الرسول (: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء» رواه البخاري ومسلم.
والمسلم لا يزال في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا كما قال عليه الصلاة والسلام.
«وإذا تقرر هذا فيجب على كل مسلم البدار إلى محاسبة نفسه، كما قال عمر (: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا. وإنما حسابه لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحًا، ويتدارك ما فرط من تقصير في فرائض الله عز وجل ويرد المظالم إلى أهلها حبة حبة، ويستحل كل من تعرض له بلسانه ويده وسطوته بقلبه، ويطيب قلوبهم حتى يموت، ولم يبق عليه فريضة ولا مظلمة فهذا يدخل الجنة بغير حساب، فإن مات قبل رد المظالم أحاط به خصماؤه فهذا يأخذ بيده وهذا يقبض على ناصيته، وهذا يتعلق بلبته، وهذا يقول: ظلمتني، وهذا يقول: شتمتني، وهذا يقول: استهزأت بي، وهذا يقول: ذكرتني في الغيبة بما يسوؤني، وهذا يقول: جاورتني، فأسأت جواري، وهذا يقول: عاملتني فغششتني، وهذا يقول: بايعتني وأخفيت عني عيب متاعك، وهذا يقول: كذبت في سعر متاعك، وهذا يقول: رأيتني محتاجًا وكنت غنيًّا، فما أطعمتني، وهذا يقول: وجدتني مظلومًا وكنت قادرًا على دفع مظلمتي فداهنت الظالم وما راعيتني، فبينما أنت كذلك وقد أنشب الخصماء فيك مخاليبهم، وأحمكوا في تلابيبك أيديهم، وأنت مبهوت متحير في كثرتهم، حتى لم يبق في عمرك أحد عاملته على درهم أو جالسته في مجلس إلا وقد استحق عليك مظلمة بغيبة أو جناية أو نظر بعين استحقار وقد ضعفت عن مقاومتهم ومددت عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك، لعله يخلصك من أيديهم إذا قرع سمعك نداء الجبار: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ( فعند ذلك ينخلع قلبك من الهيبة وتوقن نفسك بالبوار، وتتذكر ما أنذرك الله به على لسان رسوله ( حيث قال: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ(، إلى قوله: (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ(.
فما أشد فرحك اليوم بتمضمك بأعراض الناس، وتناولك أموالهم، وما أشد حسرتك في ذلك اليوم إذا وقف بك على بساط العدل، وشوفهت بخطاب السيئات وأنت مفلس فقير عاجز مهين، لا تقدر على أن ترد حقًّا أو تظهر عذرًا فعند ذلك تؤخذ حسناتك التي تعبت فيها عمرك وتنقل إلى أخصامك عوضًا عن حقوقهم، كما ورد في الأحاديث»().
وصدق الرسول ( القائل: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم ولا متاع، قال: إن المفلس من أمتي، من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل انقضاء ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» رواه مسلم.
والقائل (: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» رواه البخاري.
الحوض
وفي هذا اليوم العظيم يعطى رسول الله ( حوضًا عظيمًا تكريمًا له عليه الصلاة والسلام، من شرب منه لا يظمأ بعدها أبدًا، ماؤه أبيض من الثلج، وأحلى من العسل، وريحه أطيبه من المسك، وكيزانه كنجوم السماء.
قال (: «إن حوضي أبعد من أيلة من عدن لهو أشد بياضًا من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم، وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه» قالوا: يا رسول الله، أتعرفنا يومئذ؟ قال: «نعم، لكم سيماء (أي علامة) ليس لأحد من لأمم، تردون علي غرًّا محجلين من أثر الوضوء» رواه مسلم.
وقال (: «حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء (أي مربع) ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من يشرب منها فلا يظمأ أبدًا» متفق عليه.
وقال رسول الله (: «إن لي حوضًا ما بين الكعبة وبيت المقدس، أبيض مثل اللبن آنيته عدد نجوم السماء، وإني لأكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة» صحيح ابن ماجه.
وكما وردت أحاديث في الذين يردون على حوضه ( وردت أحاديث في الذين يمنعون منه.
قال رسول الله (: «أنا فرطكم عل الحوض، وليرفعن إلي رجال منكم، حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني (أي أخذوا بسرعة)، فأقول: أي رب، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» رواه البخاري ومسلم.
«قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين: فكل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله ولم يأذن به الله، فهو من المطرودين عن الحوض المبعدين عنه، وأشدهم طردًا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم كالخوارج على اختلاق فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدلون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق، وقتل أهله وإزلالهم والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع، ثم البعد قد يكون في حال ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد، وعلى هذا التقدير يكون نور الوضوء يُعرفون به ثم يقال لهم: سحقًا، وإن كانوا من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله ( يظهرون الإيمان ويُسرون الكفر فيأخذهم بالظاهر، ثم يكشف لهم الغطاء فيقول لهم: سحقًا سحقًا، ولا يخلد في النار إلى كافر جاحد مبطل ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان»().
الميزان
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ(
وفي ختام ذلك اليوم العظيم ينصب الميزان لوزن أعمال أهل المحشر ليجازون على أعمالهم، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
وهو ميزان عدل دقيق لا ينقص من الحسنات والثواب ولا يزيد في السيئات والعقاب، يأتي بجميع الأعمال حتى الحقير منها، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ(.
ويقول الرسول (: «يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السموات والأرض لوسعت. فتقول الملائكة: يا رب، لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك» السلسلة الصحيحة (941).
ويقول المصطفى (: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، واقرؤوا إن شئتم: (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا( رواه البخاري ومسلم.
فالفوز والفلاح لمن ثقلت موازينه (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(، والخسران والبوار لمن خفت موازينه (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ(.
الصراط
(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا(
عند ذلك «يبقى في عرصات القيام أتباع الرسل الموحدون، وفيهم أهل الذنوب والمعاصي، وفيهم أهل النفاق، وتلقى عليهم الظلمة قبل الجسر كما في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سئل الرسول (: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال: «هم في الظلمة دون الجسر»().
لقد قضى الله تعالى وأمر أمرًا محتومًا واقعًا لا محالة بأن الناس جميعهم واردون على النار، والورود: هو المرور على الصراط، قال تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا(.
لكنْ المؤمنون ينجيهم الله بإيمانهم وأعمالهم الصالحة فيمرون على الصراط، أما المنافقين() فيسقطون في النار ولا يستطيعون الخروج (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا(.
ورد في صفة الصراط أنه أدق من الشعرة وأحد من السيف، عليه كلاليب عظيمة تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم ناج مسلَّم ومنهم ناج مخدوش، ومنهم مكردس في النار.
وجاءت الأحاديث الصحيحة التي تكلم عن مكان الصراط وعن كلاليبه وعن كلام الرسل يومئذ، وعن أصناف السائرين عليه.
قال رسول الله (: «... يضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجوز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق بعمله، ومنهم المجازي حتى ينجى» رواه مسلم.
وفي حديث أبي هريرة ( أنه قال: «... ونبيكم ( قائم على الصراط يقول: يا رب سلم سلم، حتى يجيء الرجل ولا يستطيع السير إلا زاحفًا، وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت بأخذه، فمخدوش ناج ومكردس في النار، والذي نفس محمد بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفًا» رواه مسلم.
«فتفكر الآن فيما يحل بك من الفزع بفؤادك، إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها، وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك، واضطراب قلبك، وتزلزل قدمك، وثقل ظهرك بالأوزار، المانعة لك من المشي على بساط الأرض، فضلاً عن حدة الصراط فكيف بك إذا وضعت عليه إحدى رجليك فأحسست بحدته، واضطررت إلى أن ترفع القدم الثاني، والخلائق بين يديك يزلون ويعثرون، وتتناولهم زبانية النار بالخطاطيف والكلاليب، وأنت تنظر إليهم كيف ينكسون، فتسفل إلى جهة النار رؤوسهم، وتعلو أرجلهم، فيا له من منظر ما أفظعه، ومرتقى ما أصعبه، ومجاز ما أضيقه»().
(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ(
وفي هذا المكان يفترق المنافقون عن المؤمنين ويحال بينهم بسور يمنع بعضهم من بعض.
يقول الله سبحانه وتعالى: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(.
«أي: إذا كان يوم القيامة، وكورت الشمس، وخسف القمر، وصار الناس في الظلمة، ونصب الصراط على متن جهنم، فحينئذ ترى المؤمنين والمؤمنات، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، فيمشون بإيمانهم ونورهم، في ذلك الموقف الهائل الصعب، كل على قدر إيمانه، ويبشرون عند ذلك بأعظم بشارة، فيقال: (بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(.
فلله ما أحلى هذه البشارة بقلوبهم، وألذها لنفوسهم، حيث حصل لهم كل مطلوب محبوب، ونجوا من كل شر ومرهوب.
فإذا رأى المنافقون المؤمنين يمشون بنورهم، وهم قد طفئ نورهم، وبقوا في الظلمات حائرين، قالوا للمؤمنين: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ(، أي: أمهلونا، لننال من نوركم ما نمشي به، لننجو من العذاب.
(قِيلَ( لهم: (ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا(، أي: إن كان ذلك ممكنًا، والحال أن ذلك غير ممكن، بل هو من المحالات.
(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ(، أي: بين المؤمنين والمنافقين (بِسُورٍ(، أي: حائط منيع، وحصن حصين.
(لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ(، وهو الذي يلي المؤمنين (وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ( وهو الذي يلي المنافقين.
فينادى المنافقون المؤمنين، فيقولون تضرعًا وترحمًا: (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ( في الدنيا بقول: «لا إله إلا الله»، ونصلي ونصوم، ونجاهد، ونعمل مثل عملكم؟
(قَالُوا بَلَى( كنتم معنا في الدنيا، وعملتم في الظاهر، مثل عملنا، ولكن أعمالكم أعمال المنافقين، من غير إيمان، ولا نية صادقة صالحة.
(وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ(، أي: شككتم في خبر الله الذي لا يقبل شكًّا.
(وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ( الباطلة، حيث تمنيتم أن تنالوا منال المؤمنين، وأنتم غير موقنين.
(حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ(، أي: حتى جاءكم الموت، وأنتم بتلك الحالة الذميمة.
(وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ( وهو الشيطان، الذي زين لكم الكفر والريب، فاطمأننتم به، ووثقتم بوعده، وصدقتم خبره.
(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا(، ولو افتديتم بملء الأرض ذهبًا ومثله معه، لما تقبل منكم.
(مَأْوَاكُمُ النَّارُ(، أي: مستقركم (هِيَ مَوْلاكُمْ( التي تتولاكم، وتضمكم إليها (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ( النار»().
وحينما يرى المؤمنون أن نور المنافقين قد انطفأ في هذا الموقف العظيم، يقولون: (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(.
* * *
الخاتمة
(فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ(
وفي نهاية هذا اليوم العظيم ينقسم الناس إلى فسطاطين لا ثالث لهما، فسطاط أهل السعادة: وهم المصدقون لله ورسوله (، وفسطاط أهل الشقاوة: وهم أهل الكفر والنفاق المكذبون لله ورسوله ( (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ(.
أما جزاء أهل الفسطاطين فيقول الله فيهما: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ(.
هذا وأسال الله العظيم أن يجعلنا من أهل السعادة الفائزين بجنته ورضوانه ويجنبنا طريق أهل الشقاوة المستحقين لسخطه ونيرانه، إنه جواد كريم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفهرس
المقدمة (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ( 5
البعث بعد الموت (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ( 6
الحشر (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا( 12
الشفاعة العامة (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا( 15
الحساب (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا( 18
الحوض 26
الميزان (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ( 28
الصراط (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا( 29
(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ( 31
الخاتمة (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ( 34
الفهرس 35