الاستنساخ البشري
حقق علماء هندسة الجينات في معهد روسلن في اسكتلندا انجازا علميا عظيما في مجال الاستنساخ الجيني على الخراف. وقد تمكنوا من توليد شاة بعد ان زرعوا فيها بويضة ذكرية تم تجريد الحامض الأميني منها بهدف التركيز على صفات وراثية مميزة دون غيرها في نفس البويضة. وهكذا يتم تسجيل نقلة نوعية كبيرة في مجال تحسين الصفات الوراثية عند الحيوان من اجل خلق اجيال منها تمتاز بنفس الصفات الجينية للذكر او الانثى على اساس انتقائي.
وهكذا شاهدنا الخروف "دولي" يخرج للحياة بتقنية طبية عالية وتخصص جيني وراثي يتطابق تطابقا تاما مع الصفة الجينية الاساس للبويضة المزروعة. وقد يقول قائل ان لا جديد في هذا الامر على اعتبار ان التلقيح الصناعي او الانبوبي اصبح من المعطيات المألوفة للتلاقح بين الذكر والانثى حتى عند البشر الذين يعانون من مشاكل الانجاب . التباين النوعي بين التلقيح الصناعي وبين الاستنساخ الجيني هو تلك القدرة الفائقة التي يتحكم من خلالها العلماء على انجاب نوعا من الخراف او القردة ذات خصائص جينية يختارها العلماء انفسهم ومن ثم قدرتهم على استثناء باقي الصفات الوراثية الاخرى. هنا يكمن الانتصار التخصصي الجيني لعلماء الهندسة الجينية في اسكوتلندا وامريكيا, وهنا ايضا تثار اسئلة الجدل المتصلة بالاشكالات الاخلاقية والخلقية والاجتماعية والنفسية التي يتضمنها هذا الانجاز التقني في حال نجاحهم في تطبيقه على البشر بعد ان تم تطبيقه على الحيوان.
والسؤال الاهم يتحلق حول الاداء الإجتماعي الذي يمتاز به افراد متماثلون في سماتهم ويشكلون مجتمعا متجانسا على الصعيد الجسدي. علما ان الفكرة ذاتها كانت في سالف الايام حلما سياسيا نازيا تبناه الفوهرر هتلر بعد ان عب حتى الثمالة من فكرة "السوبرمان" أي الرجل المتفوق التي اختلقها الفيلسوف الالماني نيتشة.
لا بد من الاشارة هنا ان التجارب العلمية السابقة التي قام بها الالمان في العهد النازي انتجت نماذج بشرية مصابة بالجنون المطبق بعد ان نجح العلماء في توليد انسان يحمل كوموزومات ذكرية تامة حيث عملوا على اشتثناء الكرموزوم الانثوي في البويضة.
لكن لا بد من الاعتراف ايضا ان التقدم التقني الحالي له الاثر البالغ في الاداء الطبي في مجال الاستنساخ وان الامكانات الحالية اوالمستقبلية هي من التقدم النوعي بحيث تبدو مثيلاتها في العهد النازي مجرد ادوات بدائية.
السؤال الاساس الذي يبدو غامضا للبعض: لماذا نتخوف من نجاح تجارب الاستنساخ البشري ؟ وكيف يمكن ان يكون عليه الحال البشري في حال نجاح العلماء من خلق مجتمعات متفوقة وراثيا وجينيا على المجتمعات الحالية ؟ وهل التفوق المقصود جسديا فقط ام تمايزا ذهنيا وعقليا ايضا ؟
التماثل الجسدي المحتمل الناتج عن هندسة الاستنساخ الجيني يخلق اشكالات عديدة يتجلى اول مظاهرها في الالغاء النهائي للخصوصية الفردية التي حباها الله للانسان رغم العدد الهائل لبني البشر منذ خلق الله الانسان وحتى اليوم. فإلغاء الخصوصية "البصمة"، مثلا، عند الافراد يعني اختفاء احد الادلة الحاسمة التي يستخدمهاالطب الجنائي في تحديد البصمات الخاصة للقاتل او الجاني عند وقوع حدث الجريمة. وعليه فان التماثل التام المحتمل لبصمات الافراد في المجتمع المستنسخ تعني فوضى قانونية واخلاقية محتملة بحيث يصبح الافراد جميعا متهمين لتوفرهم على نفس البصمة التي توجد لدى القاتل او يصبح السارق بريئا من تهمة السرقة لضياع دليل البصمة.
كما ان التماثل الجسدي التام يلغي الفروقات الفردية والتباين في القسمات ولون العيون التي تميز الافراد بعضهم عن بعض. وبالتالي فان ما يعرف "بالهوية الشخصية" للافراد تصبح في خبر كان وعليه فان باب انتحال الشخصية يصبح هو الصيغة الاعم التي تؤطر كل افراد المجتمع المستنسخ جينيا. وهكذا فانه لا مجال لبناء العلاقات الاجتماعية التي يكون اساسها المعرفة الشخصية او عقود الزواج او رابطة الدم. وعليه هل يستطيع الزوج ان يتعرف على زوجته من بينالالاف المؤلفة من النساء الشبيهات؟ وهل يكون في مقدور المرأة الزوجة تبيان حقيقة علاقتها الزوجية من احد المستنسخين الذين يتشابهون مع زوجها حتى الشعرة الواحدة ؟ وهكذا تختفي مؤسسة البيت التي هي اللبنة الاساس في تكوين المجتمع.
ان الاعجاز الالهي في تباين الخلق واختلاف القسمات بين بني البشر يعبر عن المغزى الحقيقي لصيغة التعارف والتعريف بالافراد الذين خلقوا اصلا من عناصر بيولوجية متشابهة تماما من حيث الجنس لكنها مختلفة الهويات لاختلاف الالوان والاطوال والاوزان. ان التباين في الخلق هو الاعجاز الاعظم في مسيرة البشر وصيرورة توالدهم، وهذا التباين هو الضمانة الشرعية والقانونية لخصوصية الهوية الفردية التي يتفرد بها العفرد عن سواه. والتي بها تفرق بين خصوصية القاتل او القاضي في المحكمة مثلا. وعندما يتماثلان تماما في اللون والشكل والطول والبصمة فمن يمنع القاتل من الجلوس على منصة القضاء ثم يدعي زورا ان شبيهه التام هو القاتل. ومن سيحول دون قيام الشبيه التام بالنوم في فراش الزوجة التي لا تشتطيع التفريق بين زوجها الاصلي والالاف من البشر اشباهه .
وعليه فان الاستنساخ المحتمل الذي نتحدث عنه سيعيدنا الى عصر الهمجية القانونية والاباحية الجنسية قبل ان يهتدي الانسان القديم الى المثل الاخلاقية والقيم الاجتماعية التي اسهمت في خلق مجتمعات متزنة وافراد يتحلون بالمسؤولية الاجتماعية. أي بناء الانسان الحضاري في انتمائه المتفرد في هويته.
ثم اليس التماثل الجسدي التام لبني البشر في قادم الايام ردة تاريخية تجرد الانسان المستنسخ من انجازاته الوطنية التي ناضل من اجلها قرونا عديدة. الاستنساخ المحتمل يلغي الخصوصية الوطنية او الدينية او الاخلاقية التي شكلت على مدار قرون هوية عادلة للشعوب واهلتهم للمشاركة في بناء صرح الانسانية المتجدد. وتجريد بني البشر من خصوصيتهم هذه يعني خلق اشكالات لا حصر لها في مجال تثبيت الهوية المحلية. واذا كان "الانسان القديم" أي الانسان الذي بنى حضارة في عهد ما قبل عصر الاستنساخ وبذل الغالي والرخيص من اجل تأكيد ذاته وهويته سيفقد منجزاته من اجل مجتمع مستنسخ متماثل، اليس من الاولى القول ان تمايز الهوية الوطنية والحضارية عند المجتمع القديم قد اختفى ليحل محله صراع الهوية البيولوجية التي انطلقت من عقالها في عصر الاستنساخ الذي خلق معضلة التماثل الجسدي التام. وهل ستلجأ المؤسسة المجتمعية او الحاكمة الى ترقيم ابناء طوفان الاستنساخ من اجل التعرف عليهم وتمييز الفرد عن صورة الجماعة المتماثلة؟؟
قد نكون اوغلنا عميقا في الحديث عن مستقبل الاستنساخ البشري وكأنه اصبح حقيقة علمية وعملية وبدأت تنتشر في البلاد والامصار كي تحل محل التجمعات البشرية التي جاءت الى الدنيا بالطريقة التقليدية التوليدية التي نعرفها جميعا، هذا الايغال في الحديث او التفكير في المسألة له ما يبرره ازاء تباهي شرائح عريضة من بني البشر في قدرة العلم والتكنولوجيا الى صنع الاعاجيب. مع علمنا المؤكد ان احسن الصنع هو صنع الله وان احسن الخلق هو الانسان الذي كرمه الله وخلقه على هيئته ووهبه العقل دون غيره من المخلوقات .
ثم اليس في التماثل الحالي القائم بين افراد النمل او الذئاب من الجنس الواحد العبرة الكافية لذوي العقول النيرة ؟ ان هذا التماثل ليس امرا جديدا في حيوات المخلوقات على سطح الارض. وانه رغم وجوده منذ ان خلق الله الدنيا وحتى اليوم لم يلغ خصوصية او فردية الذئاب او النمل وان الله قد مايز بينهما في الرائحة المتفردة لكل نملة او ذبابة حتى تتغلب على صفة التماثلية.
على ان الاستنساخ الذهني او العقلي يبقى الطامة الكبرى التي قد يبتلى بها الانسان التقليدي في القرن الحادي والعشرين. ولنا ان نتصور انه بعد نجاح علماء الهندسة الجينية في استنساخ الانسان المتماثل ظاهريا قد تكون هناك قفزة نوعية اخرى في مجال استنساخ "المجتمع العبقري" او "المجتمع المعرفي الصرف". ولكم ان تتخيلوا ايضا اسوأ الاحتمالات في هذا المجال: أي استنساخ الانسان "المتفوق الشرير" الذي لا يؤمن بشيء في هذه الحياة سوى بقدراته الذهنية العالية وبطاقاته التي لا تضاهى في التنكيل بالانسان القديم الذي هو نحن وابناءنا واحفادنا. علما ان المستنسخ الجديد قد يتوفر على ترسانة من الاسئلة والاجوبة، والتي لم تتوفر لنا لحد الان، المتصلة بانتاج وعي انساني – تقني تفوق حدوده المعرفية وبصماته الفكرية كل ما تم انتاجه من تراث حضاري بشري واحساسات دينية وقوانين طبيعية. عندها يصبح الانسان التقليدي غريبا مهمشا يعيش في زوايا النسيان ويرزح في قيود وعيه الذي تخطاه الزمن.
والنتيجة المرعبة تكون في اندثار حضارة العالم القديم واستبدالها بحضارة اخرى لا يملك الانسان الطبيعي مفاتيح الولوج فيها، ولا حتى المشاركة بها على اعتبار انه صاحب مظهر غير حضاري وعقلية رجعية لا سبيل الى تحديثها الا من خلال الغائها وشطبها نهائيا حتى يسود الانسان المستنسخ الذي لا يعرف بحكم طبيعته الاحادية فهم انماط التفكير البائد ولا مغزى العلاقات الاجتماعية القائمة على رابطة الدم او العقيدة او حتى الانتماء القومي.
هذا الانسان المتماثل مع بني مجتمعه في كل شيء. وهذا الانسان الامة الذي لا يستطيع فهم خصوصية الهوية ولا اصالة الانتماء ولا حتى رابطة الابوة او الاخوة او البنوة الا بمعناها التقني الاستنساخي العام سيكون في قادم الايام الاسطورة البشرية البديلة بعد ان اعيتنا جميعا اساطير الجن والمردة.
