هجرة الأدمغة
لربما يخال للمرء أن الحديث في وعن ظاهرة هجرة الأدمغة غدا متقادمة قياسا إلى الحجم الضخم من الدراسات التي تناولتها, ومتجاوزة احتكاما إلى واقع انفتاح الأسواق وتداخل الاقتصادات وتزايد مد سريان السلع والخدمات والخبرات والكفاءات بين الدول وعبر الحدود دونما قيود كبرى في الحل والترحال.
يبدو بالتالي, بالاعتقاد الأول كما بالثاني, ولكأن معاودة الحديث في الظاهرة إياها إنما هو ضرب من ضروب التكرار العقيم والاجترار الذي لا فائدة منه تذكر.
ليس بمستطاعنا مجاراة الاعتقادين والتسليم بأن الإشكالية أضحت متقادمة ومتجاوزة على الأقل لسببين إثنين:
+ الأول ويكمن في الخلفية التي على أساسها تسنى للأسواق أن تنفتح, للاقتصادات أن تتداخل ولظاهرة العولمة أن تتجذر وتتوسع.
والقصد هنا إنما القول بأن المنافسة والتنافسية في ظل هذا الواقع الجديد لم تعد مبنية على اليد العاملة الكثيفة الوفرة والقوى اليدوية المتوفرة ولا على موارد الأرض الفوقية والتي يختزنها باطنها, بل أصبحت مرتكزة على قدرة الاقتصادات الوطنية على إفراز منتجات ذات قيمة مضافة وسلع شديدة التعقيد تفترض كفاءات عالية وخبرات دقيقة وعملا شبكيا مرتبا ومتناسقا.
+ أما الثاني فيتمثل في الاتجاه المتزايد للاقتصادات الوطنية بجهة الانتقال إلى مجتمعات إعلامية ومعرفية تجر بواسطتها وتيرة النمو بعدما تعذرت ذات الوتيرة في ظل أنساق التنظيم الممركزة, التايلورية, الهرمية والمسيرة من فوق.
ولما كانت طبيعة التحول تسير بهذا الاتجاه فإنها تشترط حتما وقبليا إقامة بنى تحتية للبحث والتطوير وأرضيات لإنتاج المعارف وسياقات تكوينية وتنظيمية عقلانية تضمن إنتاج وإعادة إنتاج الكفاءات والخبرات التي هي أداة الانتقال إياه وعنصره الأساس.
بالسبب الأول إذن كما بالسبب الثاني, يبدو أن "رفع رهان الاندماج" في العولمة وفي مجتمع الإعلام والاتصال المتزايد المد إنما يمر عبر تكوين الكفاءات والخبرات وتجنيدها وتأطيرها وضمان التكوين المستمر لها وتوفير المناخ القمين بثنيها عن البحث عن فضاءات أخرى تفتح لها في المجال واسعا للبحث والإبداع والتطوير وفوق كل هذا وذاك الإشعاع والشهرة.
وعلى هذا الأساس, فلو سلم المرء جدلا بأننا حقا بإزاء فضاء عالمي موحد (أو في طريقه إلى ذلك جراء تراجع الحدود وتداخل المصالح وانفجار أدوات ووسائط الإعلام والاتصال), فإنه سيسلم في ظل ما سبق بأننا نتجه حقا بجهة تقسيم عالمي للعمل جديد ستكون الغلبة بصلبه للذين ينتجون السلع والخدمات المتضمنة للمعارف العالية وللكفاءات الدقيقة والحاضنة للخبرات الجيدة والموغلة في أساليب البحث والتطوير الجديدة وأنماط التنظيم المتجددة وسلوكيات العمل الشبكي اللاممركز, المرن واللاهرمي.
نحن بالتالي بإزاء تقسيم عالمي للعمل على أسس جديدة تثبت يوما عن يوم أن ما كان امتيازا وطنيا (مبنيا على العضلات الخالصة والمواد الأولية الآيلة للنضوب) أضحى اليوم الاستثناء الذي لا يمكن الاتكاء عليه "لمواجهة تحديات العولمة" أو لبناء "مجتمعات العلم والمعرفة".
-2-
ليس ثمة من شك إذن, فيما نتصور, بأن طبيعة التقسيم العالمي "الجديد" للعمل إنما أضحت مبنية على توزيع الكفاءات والخبرات والأدمغة تحكمه بدءا وبالمحصلة عوامل طرد وجذب تتراءى للبعض هجرة قسرية ولا يرى فيها البعض الآخر إلا حركية "طبيعية وتلقائية" تضحو الغلبة فيها للأكثر جذبا من الدول قياسا إلى التي لا قابلية لديها إلا على الطرد حتى وإن كان ذلك غير مقصود الغاية:
+ فعوامل الطرد الموضوعية (من بين ظهراني دول العالم الثالث تحديدا) إنما يفرزها واقع غياب الديموقراطية وتفشي الفساد السياسي وطغيان سلوكات الزبونية والمحسوبية والاتكالية وغياب السياسات العلمية والتكنولوجية وضعف مقومات المنظومة التربوية وسيادة عقليات الريع واحتقار البحث والعلم والمعرفة, بل واستصدار الحق في التعبير والتفكير والعمل والإبداع وما سوى.
وتفرزها حقيقة الإهانة التي تطاول الباحثين والعلماء وواقع التيئيس والتهميش والاحتقار الذي يبلغهم وشتى أشكال الفقر الاقتصادي والاجتماعي التي تسلط عليهم (عنوة في الغالب الأعم) ومختلف ضروب انسداد الأفق التي تبدو لهم بالواقع المعاش, بالممارسة القائمة وبالتلميح في الخطاب الرسمي أيضا.
وعلى هذا الأساس, فإنه من المجانب للصواب حقا اعتبار سلوك هذه الفئة ضمن خانة الحركية أو الهجرة الطوعية أو مجرد البحث من لدنها على آفاق أوسع.
إنها, وقد ضاقت بها الآفاق مجتمعة, أضحت مجبرة على الرحيل جراء الحيف والغبن الذي لحقها وغدت في استحالة من أمر بقائها (أو تكاد) بعدما انصرف الأمل الأول وغذا مجرد سراب بينها وبين بلوغه اليأس والفقر واللامبالاة.
+ كيف لها الصبر والمكابرة بالحالة إياها وعوامل الجذب (بالغرب تحديدا) متوفرة وقائمة ولا تفترض "لاقتناصها" كبير عناء, إذ سبل العيش الكريم ومناخ العمل المجازى عنه مضمونة وإمكانات النجاح متاحة وفرص التميز غير معاقة بهذا الاعتبار أو ذاك؟
قد يبدو من قبيل المجازفة حقا أن يستسلم المرء (ذي الكفاءة الثابتة والمعرفة القائمة) لواقع حال الطرد والإقصاء والتهميش وقد وفرت له طبيعة "التقسيم العالمي الجديد للعمل" سبل الارتقاء بمعارفه وكفاءاته وخبراته وضمنت له مستويات في التميز والإشعاع وفوق كل هذا وذاك سبلا في العيش كريمة, غير مهددة الحال والمآل سواء بسواء.
ولئن كنا لا نحتكم على نماذج في المقارنة بين جزر الطرد ومد الجذب, فإن المؤكد (على الأقل بالإحصاءات المتوفرة) أن خشونة الأولى لا يماثلها قوة إلا نعومة الثانية في الشكل كما في المضمون:
°°- فالهجرة القسرية (قياسا إلى تلك الطوعية فيما بين البلدان المتقدمة) لم تعد تقتصر على الأدمغة العالية التكوين والدقيقة المعارف, بل أضحت تغزو حتى التي لا تكوينا عاليا لديها لكنها قابلة لإعادة التكوين وتعميقه بأرض الاستقطاب.
والتلميح هنا لا يطاول فقط فصيلة الأطباء ذوو الاختصاص الدقيق أو الذين اكتفوا بالتكوين العام, بل وأيضا الممرضين الذين أضحوا مكمن استقطاب كبير من لدن هذه الدولة المتقدمة أو تلك.
°°- والهجرة المكرهة (قياسا إلى التي تتحرك دونما وجود إكراه خلفها) لا تستنكف العودة إلى وطنها الأصل (بعد حصولها على الدبلوم والشهادة), بل وتشترط لذلك توفر البيئة الكاملة والشاملة لعودتها...تحول دون سقوطها في خانة أحزمة الفقر من جديد.
هي لربما لا تستلطف البقاء بديار المهجر (على خلفية مرجعيتها وتشبتها بهويتها وارتباطها بالوطن الأم) لكنها لا تريد المجازفة بذلك في غياب الشروط وتوفر الضمانات.
بالتالي, فهي لا تريد التفريط في مكسب قائم إلا إذا توفرت لديها القناعة بأن مقابله مضمون بالضفة الأخرى حتى وإن لم يكن بالضرورة ماديا خالصا.
ولما لم يتسن لذلك التوفر والضمانة, فهي ترفه عن نفسها بالاعتقاد أنها تؤسس لدياسبورا علمية بالغرب أو تعمل ضمنها في أفق تحسن ذات البنى والرجوع للوطن.
-3-
ولئن كان من المطلوب والمرغوب فيه حقا تكوين دياسبورا علمية بالغرب تتمثل قيم البحث والتطوير والإبداع التكنولوجي وتشيعها تدريجيا على أبناء موطنها الأصل أو تحول منافعها إلى بلدها مادة أو عن طريق الإشعاع, فإن اشتغال ذات المنظومة يفترض شروطا غالبا ما تكون منعدمة بالبلد- المصب:
+ فالدياسبورا تفترض توفر بيئة محلية رافعة يكون بمقدورها استقطاب المعارف والخبرات وتوزيعها وترويجها بالنسيج الاقتصادي والاجتماعي يضمن للاقتصاد والمجتمع الاستفادة القصوى من كفاءاته المهاجرة وتوظيف إبداعاتها في تحسين ظروف عيش الفرد والجماعة ناهيك عما يفرزه ذلك من مداخيل مباشرة.
+ والدياسبورا تفترض سياسات عمومية تتغيأ في الأصل (أي في إطار استراتيجية قائمة) إدغام ما تفرزه الكفاءات الوطنية المهاجرة في ذات الاستراتيجية وإدماجه في منظومة للتنمية والتقدم واضحة وصادقة.
+ والدياسبورا تفترض, فوق كل هذا وذاك, منظومة حكامة تتغيأ في الأفق المنظور استعادة ذات الأدمغة وموطنة عطائها وإبداعها في نسيج الاقتصاد الوطني عوض أن يبقى رهينا بدول الاستقطاب.
هي مستويات ثلاثة لا قيمة بصلبها تذكر لمفهوم الدياسبورا, إذ هي (الأخيرة أعني) وسيلة وأداة وليست غاية أو تطلعا أو مكمن مراهنة.
لقائل يقول: إذا كانت الظروف المؤدية لهجرة الأدمغة والكفاءات قائمة وموضوعية (بحكم غياب الحد الأدنى لتقييم ما تم لها تحصيله من معارف وخبرات) وإذا كانت سبل تكوين دياسبورا بالخارج, تمد بلدانها الأصل بما بلغته من قدرات بحثية وفي التطوير, متعذرة المنال والتجسيد بأرض الواقع...إذا كان كل هذا وذاك قائما وثابتا, فلم مطالبتها بالعودة إلى مواطنها- الأصل؟ أوليس من الأولى لها أن تبقى حيثما يعترف لها بالقيمة والكفاءة وتحصل على التكريم على الأقل بانتظار تحسن ظروف البحث العلمي ببلدانها؟
ما قيمة خطاب المطالبة برجوع ذات الكفاءات في غياب سبل استنبات الظروف الداخلية "لإغرائها" بالعودة؟
هي تساؤلات حقيقة وإلى حد ما موضوعية ويسندها واقع الحال, لكنها من التساؤلات-الحق المبطنة للباطل:
+ فالدفع بهذا الطرح إنما هو من الدفع بطرح النخب الحاكمة التي تتخذ من هجرة الأدمغة منظومة حكم بل وتشجعها في تعذر (أو عدم توفر الرغبة) في ثنيها عبر إدماجها بسياسات علمية وتكنولوجية صادقة, واضحة ومحفزة.
بالتالي, فتشجيع هجرة الأدمغة هو من تشجيع النخب إياها على تجاهل ذات الأدمغة بعدما صرفت الشعوب على تكوينها المال والجهد والوقت.
+ والدفاع عن هذا الطرح هو من إهانة الكفاءات الصامدة التي ترفض الهجرة تحت هذا المسوغ أو ذاك, وتتشبت بموقف لها ثابت حتى باشتداد الخناق عليها شكلا وفي المضمون.
+ ثم لو سلم المرء بانعدام الأفق داخليا فيما يتعلق ببعض التخصصات الدقيقة المتطلبة لمعاهد ومحتبرات لا تتوفر إلا بالغرب, فكيف التسليم بالهجرة التي تطاول الأطباء والممرضين ومساعدي الأطقم الصحية لدرجة النزيف...؟
قد تكون معاتبتنا على المهاجر المتخصص في التكنولوجيات الدقيقة مثلا مجانبة لبعض من الصواب, لكن السكوت عما يجري بمجال الصحة وباقي القطاعات الضرورية