حق الوالدين على الأبناء
يحيى بن موسى الزهراني
المقدمة
الحمد لله الذي قرن طاعته بطاعة الوالدين ، وألزم حقوقه بحقوق الوالدين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الواحد الفرد الصمد ، الواهب الماجد ، وأشهد أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ، الذي حث الأبناء وأمرهم ببر الوالدين ، وحذرهم ورهبهم من مغبة العقوق ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . . أما بعد :
فحق الوالدين على الأبناء لا يستطيع أن يحصيه إنسان ، فهما سبب وجود الأبناء والبنات بعد الله عزوجل ، ولن يستطيع الأبناء أن يحصوا ما لاقاه الأبوان من تعب ونصب وأذىً ، وسهر وقيام ، وقلة راحة وعدم اطمئنان من أجل راحة الأبناء والبنات وفي سبيل رعايتهم ، والعناية بهم ، فسهر بالليل ، ونصب بالنهار، ورعاية واهتمام بالتنظيف في كل وقت وحين ، وحماية من الحر والبرد والمرض ، وتعهد وتفقد لحالة الأبناء من جوع وشبع ، وعطش وروى ، وتحسس لما يؤلمهم فهما يقومان بالعناية بالابن أشد عناية ، فيراقبان تحركاته وسكناته ، ومشيه وجلوسه ، وضحكه وعبوسه ، وصحته ومرضه ، يفرحان لفرحه ، ويحزنان لحزنه ، ويمرضان لمرضه ، فالأم حملت وليدها تسعة أشهر في الغالب تعاني به في تلك الأشهر ما تعاني من آلام و مرض ووهن وثقل ، فإذا آن وقت المخاض والولادة ، شاهدت الموت ، وقاست من الآلام ما الله به عليم ، فتارة تموت ، وتارة تنجو ، وياليت الألم والتعب ينتهي بالوضع لكان الأمر سهلاً يسيراً ، ولكن يكثر التعب والنصب ويشتد بعده ، فحملته كرهاً ووضعته كرهاً .
فتذبل الأم وتضعف لمرض وليديها وفلذة كبدها وتغيب بسمتها إن غابت ضحكته ، وتذرف دموعها إذا اشتد به المرض والوعك ، وتحرم نفسها الطعام والشراب ، إن صام طفلها عن لبنها ، بل وتلقي بنفسها في النار لتنقذ وليدها ، وتتحمل من الذل والشقاء أمثال الجبال كي يحيا ويسعد وتموت راضية إذا اشتد عوده وصلب ، ولو كان ذلك على حساب صحتها وقوتها وسعادتها .
ترى الحياة نوراً عندما ترى طفلها ووليدها وفلذة كبدها مع الصبيان يلعب ، أو إلى المدرسة يذهب ، وهي تعيش اللحظات الحاسمة في حياته عندما تنتظر تفوقه ونجاحه ، وتخرجه وزواجه ، ثم بعد أن يشب ويشق طريقه في هذه الحياة تنتظر الأم بكل شوق ولهف ماذا سيكون جزاء الأعمال التي قدمتها له ؟ بماذا سيكافئها من أجل تضحياتها وجهودها وآلامها ؟ هل سيكون جزاء الإحسان هو الإحسان ؟ أم سيذهب كل ذلك أدراج الرياح ؟ ويكون جزاء الإحسان هو النكران ؟ .
هذه هي الأم التي أوصى النبي(صلى الله عليه وسلم) ثلاث مرات بها عندما سأله رجل من يبَر ، فلها ثلاثة أضعاف حق الوالد ، ولذلك جعل الله الجنة تحت قدميها .
والوالد ! وما أدراك ما الوالد ؟ ذلك الرجل الذي يكد ويتعب ، ويجد ويلهث ، ويروح ويغدو من أجل راحة ابنه وسعادته ، فالابن لا يحب بعد أمه إلا أباه الذي إذا دخل هش وبش به ، ولعب معه ومرح ، وإن خرج تعلق به ، وبكى من أجله وصرخ ، وإذا حضر قعد على حجره ، مستنداً على صدره ، وإذا غاب سأل عنه وانتظره بكل شوق وحب ، فإذا رضي الوالد أعطى ولده ما يريد ، وإذا غضب أدبه بالآداب الشرعية ، أدبه بالمعروف من غير عنف ولا إحراج .
ولكن ؟ وللأسف فسُرعان ما ينسى ذلك الابن الجحود ينسى الجميل وينكر المعروف ذلك الابن المغرور ، فعصيان بالليل وتمرد بالنهار ، وعقوق للوالدين جهاراً نهاراً ، واعلم أن طاعة الوالدين واجبة بكتاب الله وسنة نبيه(صلى الله عليه وسلم)، قال تعالى : { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً }[النساء36] ،وقال (صلى الله عليه وسلم)
( رغم أنف ، ثم رغم أنف ، ثم رغم أنف ، من أدرك أبويه عند الكبر ، أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة ))[مسلم] ( وذلك كناية عن الذل وإلصاق الأنف بالتراب هواناً ) .
ولن يكافئ الولد والديه على ما قاما به من رعاية وتربيه إلا كما قال (صلى الله عليه وسلم): (( لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه )) [مسلم] .
فاللهم حبب إلينا والدينا ، وأعطف عليهما قلوبنا ، واجعلنا نرأف بهما ونبرهما ونرد لهما بعض ما قدماه لنا من إحسان ، واللهم ارحمهما واغفر لهما وسامحهما واجعل الجنة مآلهما ، ولا تضيع أجرهما إنك على كل شئ قدير .
وللوالدين على الأبناء حقوقاً كثيرة لا تعد ولا تحصى مكافئة لما قاما به من مساعٍ حميدة من أجل راحة الأبناء ، وتنشأتهم تنشأة إسلامية ، راجين بذلك ما عند الله والدار الآخرة ، ثم راجين من الله تعالى حسن الرعاية من أبنائهما إثر تربيتهما لهم ، ومن هذه الحقوق :
1- بر الوالدين :
لقد حث الإسلام ، هذا الدين الحنيف الصالح لكل زمان ومكان على بر الوالدين في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه(صلى الله عليه وسلم) لما لهما من فضل وحقوق على الأبناء ، فقال جل من قائل سبحانه :{ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً }[ العنكبوت 8]، وقال تعالى :{ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ }[لقمان 14]فهي أي الأم في تعب وجُهد من قبل الولادة ثم أثناءها ثم بعدها، وكذلك الأب يسهر لتعب الابن ويحزن لمرضه ، ويقلق ويخاف عليه أثناء غيابه ، فاستحقا بذلك البر بهما ، فهما - أي الأبوان- ربيا أطفالهما صغاراً واعتنوا بهما كباراً، فاستحقا بذلك الشكر والبر جزاء ما قدما وقاما به من حسن التربية والتنشئة ، واستحقا البر جزاءً موفوراً ، فبر الوالدين واجب وفريضة على الأبناء ، وفي برهما أجر كبير وثواب عظيم ، فبرهما من أفضل الأعمال وحقهما هو الحق الثالث بعد حق الله تعالى وحق نبيه (صلى الله عليه وسلم)
وبر الوالدين مقدم على بر غيرهما من الناس ، سواءً الأولاد أو الزوجة أو الأصدقاء أو الأقرباء ، أوغير أولئك من الناس ، بر الوالدين مقدم على أولئك جميعاً .
وبر الوالدين يكون بكل ما تصل إليه يد الأبناء من طعام وشراب وملبس وعلاج وكل ما يحتاجانه من خدمة وبر ومعروف قال تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ(16) }[ الأحقاف 15/16] .
وعن أبي عبد الرحمن عبدالله بن مسعود(رضى الله عنه) قال : سألت النبي(صلى الله عليه وسلم) : أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال
( الصلاة على وقتها ))قلت ثم أي ؟ قال
( بر الوالدين ))قلت ثم أي ؟ قال : (( الجهاد في سبيل الله))[ متفق عليه] .
فجعل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، بر الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله ، وما ذاك إلا لعظم حقهما على أبنائهما ، فالأم حملت ووضعت وأرضعت وأطعمت وسقت وسهرت وتعبت ، فكان لبنها الغذاء والطعام ، وحجرها المرقد والمنام ، والأب يعطي وينفق ويعمل ليل نهار من أجل توفير المسكن والملبس والمطعم والمشرب فوجب برهما ، ومن برهما الإنفاق عليهما ، وشراء الطعام والشراب الذي يشتهيانه لهما ، وإدخال الفرح والسرور عليهما ولو كان ذلك على حساب الأبناء ، ومساعدتهما في كل ما يحتاجانه من أعمال ، ومن برهما أن لا يجلس الابن وأبواه واقفان ، وأن لا يمشي أمامهما ، ولا يركب السيارة حتى يركب أبوه وأمه قبله ، ويساعدهما في النزول والقعود والنهوض والوقوف إذا احتاجا إلى ذلك ، ويجلس معهما حال مرضهما ويسعى جاهداً لعلاجهما ، ولا يبخل عليهما بمال ولا وقت ، ولا يدخر جهداً في إرضائهما ، ويحثهما على الدعاء له في كل وقت وحين ، ويدعوا هو لهما لعل الله أن يرحمها بكثرة دعاءه لهما ، قال تعالى : {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً(14) } [ مريم 14 ] أثنى الله عز وجل على يحيى على السلام لبره بوالديه .