عانى علم الآثار من سيطرة الكثير من الخيالات التي كانت تسمى حينها فكراً ونظريات، من قبيل تقسيم الزمن لما قبل الطوفان وما بعده، والعمر الخيالي المثيولوجي للكائنات البشرية والحياة عموماً، هذا ما جعل أحد أبوي الحفريات في بريطانية R.Colt Hoare يكتب عام 1821م. " نحن نتحدث عن حقائق لا نظريات، إنني لن أبحث عن أصل مدافن Wiltshire في عالم الرومانسية الحالمة"(دانيال 1981: 71)، ولا حقاً ظهرت التفسير العنصري للآثار وفق خيالات المفاخرات القومية، هذا ما يجعل بعض الآثاريين ينفرون لحد الآن من الأفكار والتنظير غير المرتكز على الدليل الأثري المباشر، ويجعله يكتفون بالجانب التقني من علم الآثار، مفضلين الصمت على الكلام وفق تخمينات وافتراضات نظرية، عادةٍ ما تستخدم في مجالات لا علاقة لها بعلم الآثار.
بدايات
يصعب الحديث عن تطور علم الآثار بفروعه كعلم واحد وبالتالي عن علاقة هذه الفروع بالعلوم الأخرى، وذلك بسبب تطور فروع علم الآثار باستقلال عن بعضها البعض زمانياً، ومكانياً أحياناً، والحال نفسه ينطبق على علم الأنثربولوجيا بفروعه المتعددة. إلا أن فرع عصور ما قبل التاريخ في الدراسات الأثرية هو مفتاح العلاقة مع فرع الأنثربولوجيا الثقافية في الدراسات الأنثربولوجية حتى أنه ليصعب التمييز بينهما في المجال النظري، وكذلك يُدرس فرع عصور ما قبل التاريخ في الكثير من الجامعات ضمن الأنثربولوجيا الثقافية، (محجوب 1985: 43)، حيث أن نظام التدريس في كندا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق يعتبر علم الآثار أحد فروع الأنثربولوجيا الثقافية، ولهذا سنتتبع فرع عصور ما قبل التاريخ من علم الآثار، مع أن بقية فروع علم الآثار تستخدم النظريات الثقافية والاجتماعية، من الأنثربولوجيا وفرع المعرفة الأخرى، وإن يكن بشكل غير مُعلن وممنهج، كاستخدام مصطلحات الطبقات مثلاً، ذو الأبعاد الاجتماعية.
علم الآثار
بقيت عملية محاولة فهم الماضي البشري لفترة طويلة تعتمد النصوص الدينية والتاريخية أساساً، حتى بعد فترة من "انتظام" عملية جمع الآثار وما حققته من تقدم بصدور عدة مؤلفات (شبه علمية) تعنى بالمواد الأثرية وترتبها وتصنفها، منها ما أصدره W.Camden فيما سماه Britannia في العام 1586م والذي صنف فيه الآثار في بريطانيا وخاصة الرومية منها واستخدم لأول مرة الرسوم التوضيحية (دانيال 1981: 30)، وفي العام 1744 قام E.Pontoppidan بأول حفرية "صحيحة" في أوابد (Megalithic) قبر في الدنمرك ليستخلص منها أن المدفونين ليسوا عمالقة (دانيال 1981: 36). إن أولى المحاولات المُعلنة لتفسير الأدوات الحجرية على أنها من صنع البشر والتعرض لنشوء البشر بشكل "علمي" وبما لا يتفق والتفسير المثيلوجي-الديني السائد في القرن السابع عشر بات بالفشل، فقد تراجع الفرنسي I. La Peyrère عن فرضيته "الما قبل آدميين" (Pre-Adamite) (Wikipedia 2010 [1]) بعد أن استتابته الكنيسة وأحرقت كتبه (دانيال 1981: 43)، هذا وقد سبق للإيطالي M. Mercati تفسير الأدوات الصوانية على أنها من صناعة بشر قدماء وذلك ضمن كتابه "المعدنيات" في القرن السادس عشر إلا أن كتاباته لم تنشر حتى القرن الثامن عشر (دانيال 1981: 42- 43).
تبع ذلك محاولات عدة في فهم الماضي البشري منها ما قام به الفرنسي J. B. de Perthes بتحديد الأدوات الصوانية كمنتجات ما قبل تاريخية (Wikipedia 2010 [2]) وما أكده لاحقاً الجيولوجي البريطاني C. Lyel وذلك بربطه بقانون التنضد الطبقي (law of superposition) الذي لم يلقى قبولاً في البداية (Wikipedia 2010 [3]) وكانت الجيولوجية قبله لازلت تفسر وجود الطبقات الأرضية بقصة الطوفان، ولم تحدد فترات زمنية لهذه الطبقات (دانيال 1981: 65)، وكان بعد اكتشاف أمريكا أن أشار بعض المهتمين ومنهم F.Imperato في كتابه " التاريخ الطبيعي" عام 1599م. لكون سكان القارة الأمريكية لا زالوا يستعملون للأدوات الحجرية، وبالتالي من الممكن أن ذلك كان في أوروبا أيضاً، وهذا يعتبر من المحاولات الأولى في استخدام الإثنوغرافيا (فرع الانثروبولوجيا لاحقاً) في التفسير الأثري، وأيضاُ في العام 1699م. كتب E.Lhwgd أن رؤوس السهام، الحجرية (المنسوبة للجنّ حينها) تماثل ما يصنعه أهل New England وإنها أدوات صيد وليست نتيجة الصواعق وأكد العديد من الفرنسيين منذ 1717م. أن الأدوات الحجرية تمثل عصراً حجرياً، منهم J.Lafitau 1724 الذي كتب "عادات البدائيين الأمريكان مقارنة مع عادات الأزمنة المبكرة" أراد فيه كما يتضح من العنوان دراسة "المجتمعات البدائية" لفهم ماضي المجتمعات الحديثة، وفي العام 1738م. كتب الفرنسي A.Gorguet " أصل القوانين والآداب والعلوم وتطورها وسط الشعوب الأقدم عهداً"، أشار فيه إلى استخدام البرونز قبل الحديد والقبل ذلك الحجر والعظام للأدوات، وأن "البشر البدائيين يقدمون لنا صورة صادقة للمجتمعات القديمة" (دانيال 1981: 42-46) وكان لنظام العصور الثلاث (الحجري والبرونزي والحديدي)، الذي طبقه الباحث التاريخي الدنمركي C. J. Thomsen عام 1819م في تصنيف المواد الأثرية، وخرج به J. J. a. worsaae عام 1843م إلى الحقل واثبت تعاقب العصور في الواقع، دوراً في فهم تتابع مراحل الحياة البشرية (دانيال 1981: 76)
كما ترسخ هذا النظام عندما أضاف عليه الأنثروبولجي البريطاني J. Lubbock عام 1865م تقسيمات فرعية في العصر الحجري وهي العصر الحجري القديم (Paleolithic) الذي ميزه بتقنية الطرق، والعصر الحجري الحديث (Neolithic) الذي ميزه بتقنية الصقل (دانيال 1981: 78)، إلا أنه ظهرت اشكاليات لهذا النظام من حيث تعميمه وعدم كفايته في الكشف عن الخصوصية الثقافية لبعض المواقع الأثرية، ما دفع الباحثين H.Christy مع Lartet عام 1861م. لإصدر أول نظام تحقيب لعصور ما قبل التاريخ معتمدين المؤشرات الاحفورية، لاحقا عام 1867م. قام الباحث في ما قبل التاريخ الفرنسي L. L. G. de Mortillet بتقسيم وتحقيب عصور ما قبل التاريخ في مجموعة كبيرة من الثقافات بتسميات آثارية (نحو مواقع الكشف) لا زال بعضها مستخدماً (مثل الموستيرية والآشولية) (دانيال 1981: 82) أما عن التقسيم اللا تقني فقد كتب E.Tylor في العام 1881م. كتاب "الأنثربولوجيا: مقدمة في دراسة الإنسان" مقترحاً ثلاث مراحل افتراضية للماضي الإنساني (الوحشية والبربرية والمدنية) وعمل على شرح كل منها، وأضاف L.H.Morgan أن نظام العصور الثلاث (التقني) كان مفيداً لتصنيف الأدوات، أما لفهم الماضي فقد قدم سبعة نماذج مفترضة تعتمد على موارد الاقتصاد، واعتبرها تشمل المجموع الإنساني مع بعض التفاوت الزمني، وقد اعتمد F. Engels في كتابه " أصل العائلة" 1884 م. على أعماله (دانيال 1981: 140) إن مشكلتي التأريخ والتغير الحضاري (محلي أم خارجي) في أوروبا كانت الشاغل للآثاريين الأوربيين في القرن 19، واعتماداً على أبحاث J. J. a. worsaae الذي فسر الانتقال بين العصور كان نتيجة انتشار شعوب من جنوب شرق أوروبا شمالها، ظهرت أفكار الانتشار والغزو ومقارنة اللقى الأثرية لتصبح القاعدة في تفسير عصور ما قبل التاريخ (دانيال 1981: 143).
وظهرت الآراء التي تركز على التطور الذاتي المتوازي للثقافات، ومن منظريها الأنثروبولوجي الألماني A.Bastein، الذي استخدم تعبير التطور "ما فوق العضوي supra organic " مؤكداً على وجود قانون عام يحكم التطور البشري، هذه الفرضية التي طورها L.H.Morgan، واعتمدها F. Engels ونقلها للماركسية (دانيال 1981: 144) كتب O. A. Montelius في العام 1899م. كتاب "الشرق وأوربا" رافضاً فرضية التطور ومؤكداً أن الشرق (بلاد الرافدين ووادي النيل) هي مصدر الحضارات، وهكذا بقي الاتجاهان التفسيريان (تعدد المراكز، ووحدة المركز) متعايشان معاً في القرن التاسع عشر(دانيال 1981: 146)
الأنثروبولوجيا
أما الانثروبولوجيا فكانت بدايتها (شبه المنظمة) في القرنين 15 و 16 م. مع الرحالة والمكتشفين للمجموعات البشرية غير الأوربية وما سمي حينا بالمجتمعات "البدائية أو المتوحشة"، فقد جمعوا معلومات وملاحظات وصنفوها مثل ما قام به الفرنسي الأب جوزيف لافيتو في النصف الأول من القرن الثامن عشر، الذي استنتج أن "التنظيمات الاجتماعية عند الإيروكيز تساوى التنظيمات البدائية لبنى الإنسان. واكتشف لافيتو وجود تشابه بين النظام الأمومي عند الإيروكيز مع ذلك النظام ما قبل التاريخي الذي وصفه هيرودوت (480-425 ق.م.) عند سكان ليكيا في آسيا الصغرى. ولكون لافيتو حاول تفسير وجود هذا التشابه باحتمال انتشار هذا النظام من آسيا الصغرى إلى أمريكا فإنه يجوز عد لافيتو من أوائل القائلين بمبدأ الانتشار الثقافي diffusion of culture "(النور؛ شلابي). إلا أن أعمال المستكشفين ما لبثت أن استقرت في أيدي الفلاسفة والباحثين الاجتماعين ليدرسوها ويستنتجوا منها أشكال التنظيمات الاجتماعية وتعقيداتها. منها ما قدمه جيامباتستا فيكو (1668-1744) عن دورة التغيير الاجتماعي، والفيلسوف الفرنسي شارل دى مونتسكيو (1689-1755) عن الحتمية الجغرافيا في التغير أشكال الاجتماع البشري،(النور؛ شلابي) وتتابعت النظيرات في تطور الحياة الإنسانية فخلال 30 عاماً من العام 1857 حتى 1890 صدرت مجموعة من الكتب ساهمت في بلورت الأنثروبولوجيا.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر (مع المد الاستعماري الأوربي) جرت محاولات "منظمة" لفهم المكتشفات الأثرية بمقارنتها بالبنى الحياتية للمجتمعات المصنفة "بدائية"، انطلاقا من افتراض هذه المجتمعات كنوع من "المتاحف الحية" وتمثل مرحلة "طفولة" للمجتمعات الأوربية، وكذلك مجال لاختبار الاستنتاجات والفرضيات حول تقدم وتعقد المجتمعات (النور؛ شلابي)، كما أشار البريطاني R.L. Fox 1851 م. الذي درس تطور الأسلحة النارية وصنفها بتتابع تسلسلي (Seration) تطوري محاكياً خطا الآثاريين، وأدخل مصطلح التصنيف وفق الخصائص(typology) وركز على أهمية الدراسات الاثنوغرافية لعلم الآثار (دانيال 1981: 172).