لا يوجد حتى الآن تعريف دقيق لمفاهيم العالمية والعولمة، وإنما يوجد تعدد آراء وتداخل بين المفاهيم، لكن اهتمام المفكرين والباحثين وأصحاب الاختصاص يتركز على العولمة بسبب انشغال البشرية فيها أكثر، ومن هذا المنطلق سأبدأ بالحديث عن العولمة أولاً.
مفهوم العولمة Globalization
تعرف على أنها مذهب القائلين بأن الرأسمالية هي ديانة الإنسانية، وأن النسبية الفكرية ستكون لها الغلبة على المطلقات الإيديولوجية، وأن مبدأ النسبية الثقافية هو المبدأ المعول عليه، وليس مبدأ مركزية الثقافات، وفي رأي القائلين بها إن العالم الآن ينتقل من الشمولية والسلطوية إلى الديمقراطية والتعددية، من خلال ثورة معلوماتية شاملة تمكن العولمة من إلغاء الحدود وحرية انتقال الناس والسلع، بإحلال التفاعل والحوار والمنافسة والمحاكاة.
وتأخذ العولمة في إطار هذا التعريف اتجاهين، الاول إيديولوجي أمريكي يحاول قولبة أنظمة الحياة في العالم على صورة نظامه بلا مراعاة لوجود خصوصيات ثقافية قد لا يلائمها نمط الحياة الأمريكي، او تتعارض قيمها ومثلها الاجتماعية مع القيم الأمريكية. والثاني يرى أن العولمة هي نوع من أنواع انتخاب وانتقاء المثل الإنسانية العليا في كل الخبرات الحضارية، وترقيتها لتصبح نموذجاً عالمياً يتم التعامل معه كنموذج مثالي تستهدفه المجتمعات العالمية، فتقترب منه بما تسمح به برامج الإصلاح فيها، وبقدر ما تحمله موازناتها، وهذا التعريف ليس سوى محاولة لتيسير التعامل مع الظاهرة، لكن الواقع يشير إلى أن السائد هو النموذج الأول، الذي عززه انهيار الكتلة الاشتراكية وفتح الأبواب أمام المهرولين نحو القطب المهيمن، اتقاءً لشره، وذوباناً في ثقافته فالعولمة أمركة.
ولقد انتشرت العولمة في كل ما يتصل من تفكير في العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وما هو مؤكد أن التوجه الحضاري الإنساني في العلاقات الدولية الحديثة والمعاصرة كان يعرف قبل ظهور مفهوم العولمة بمسميات أخرى مثل الدولية، التدويل الإمبريالية، العالمية، الكونية، نظام الاستعمار المباشر القديم، نظام الاستعمار غير المباشر الجديد، وكل هذا سيشكل ظاهرة يستدل منها على مفهوم علاقات بين الحكومات أو بين القوميات، أو متعددة الأطراف، وهذه العلاقات ستكون نتائجها بدون شك للدول الأكثر نفوذاً وتأثيراً في نظام العولمة هذا، ومهما تكن العلاقات الجارية في مسرح العلاقات الدولية المعاصرة، والمفاهيم التي تحاول الإطاحة بها فهي مصطلحات تفسر نفس الظاهرة، وتمثل نزوع الغرب نحو الشمولية والاستبداد العالمي أو الدولي، والقاسم المشترك إلى هذا النزوع هو السوق الحرة، وما المصطلحات التي تسوقها الأوساط الأكاديمية والإعلامية الغربية سوى محض تمويه وخداع وتضليل وأدلجة وتوظيف دعائي سياسي تكتيكي للمفهوم، وستبقى العولمة مفهوماً سوسيولوجياً له أهميته في علم الاجتماع العالمي، أو علم العولمة، الذي نرغب فيه أن يكون مستقلاً عن أي توظيف أيديولوجي، وهذا ما نبغي اختياره.
مفهوم العالمية Cosmopolitanism
إذا كانت العولمة (1) تعني وحدة الجنس البشري، باعتبار أن العالم وحدة واحدة، فالعالمية ضد العولمة، الأول انفتاح على العالم، وإقرار بتباين الثقافات والحضارات، والثانية انفتاح على ثقافة واحدة، هي الثقافة الأمريكية، ورفض لما عداها من ثقافات، وإذا كانت وسيلة العالمية الانفتاح بين الحضارات؛ فإن وسيلة العولمة الصدام والصراع بين الحضارات، وإذا كانت العولمة غزوا ثقافيا، واختراقا لخصوصيات الثقافات القومية والوطنية؛ فإن العالمية إثراء لهذه الثقافات، وتلاقحها حضارياً وعلمياً وتقنياً.
وتقوم العالمية على المساواة والنّدية بين مختلف الثقافات، بينما تقوم العولمة على التبعية والهيمنة والتطبيع والغزو والاختراق وإفراغ الثقافة من مضمونها وانتزاع هويتها الخاصة والترابط بين الناس برباط عولمي من اللاوطنية واللاقومية واللا دينية واللادولة.
إن العالمية تخاطب أعمق مشاعر الإنسان عموماً، وأقوى مشاكله، وأخص هواتفه، والعالمي في الأدب والفن هو الذي يتصيد، ما بين البشرية جمعاء، العواطف المشتركة، وما في وجدانها من حقوق موحدة وقيم سامية ومثل عليا على الرغم من اختلاف الأجناس وتباين الأزمان والأوطان، ويعد الحياة كرامة والحرية حقاً، والعدالة الاجتماعية حتماً والفضيلة جوهراً.
فالعالمية نزعة إنسانية توجه التفاعل بين الحضارات، والتعاون والتساند والتكامل والتعارف بين مختلف الأمم والشعوب، والحضارة العالمية نزوع عالمي يرى التعدد والتنوع والاختلاف القاعدة والقانون.
هذا التعريف للعالمية يختلف عن التعريف الغربي في وقتنا الراهن، إذ أن التعريف الغربي الآن يؤمن بالنزعة المركزية اللصيقة بالنموذج الحضاري الغربي منذ القديم، ولهذا فإن الجديد فيه، هو تصاعد في درجة النزعة المركزية، ووحدة التطبيق لها. والسبب في ذلك هو التطورات الجديدة التي طرأت على العالم، ومن ثم علاقة النظام الغربي بالعالم غير الغربي، والذي يطمح في صب العالم اقتصادياً وسياسياً وقيمياً وثقافياً وعسكرياً.. الخ، داخل قوالب غربية.
من هذا المنطلق تتداخل مفاهيم العولمة والعالمية الغربية، لتمثل مرحلة الطوفان (والذي هو في مضمون هذه المفاهيم مجموع الدعاوي الغربية) نهاية التاريخ، بحيث من لم يركب سفينة نموذجه طوعاً سيركبها مكرهاً.
من هنا نقول إن العولمة والعالمية الآن زعامة أمريكية، توضحها أساليب الليبرالية الأمريكية المستخدمة، والتي نلحظ آثارها في الفروقات الاقتصادية الهائلة بين دول الشمال والجنوب، على الرغم من فروقات الكثافة السكانية الهائلة بين الاتجاهين (2) كما يوضحها أيضاً تهميش دور المنظمات الدولية لحساب مؤسسات الدولة الأمريكية، فمجلس الأمن القومي الأمريكي يكاد يحل محل مجلس الأمن الدولي، والكونغرس الأمريكي أصبح يشرع للعالم بأسره ويصدر القوانين التي تصنف الدول بمارقة وإرهابية، ومحاصرة وغير محاصرة، ودول تفرض عليها المقاطعة والعقاب، ودول لا تستحق المقاطعة او العقاب، ودول يستحق إنسانها الحياة والتمتع بحقوق الإنسان، وأخرى لا تستحق، ويصل التشريع الأمريكي إلى حد إصدار القوانين، واعتماد الميزانيات العلنية لتغيير نظم الحكم، هذا بالإضافة إلى استخدام القوة العسكرية الغاشمة لمن تسول له نفسه بالتمرد والعصيان، فمن لم تردعه التحذيرات والعقوبات، تردعه الصواريخ والمقاتلات.
النموذج الغربي للعولمة والعالمية:
1- التحديث modernity والاعتماد المتبادل inter depednce.
2- عولمة رأس المال، التي وصلت إلى حالة أقرب إلى السوق العالمية الكبيرة بواسطة نمو البورصات العالمية.
3- التطور الهائل في تكنولوجيا الاتصال والانتقال.
4- عولمة الثقافة، وتزايد الصلات غير الحكومية، والتنسيق بين المصالح المختلفة للأفراد والجماعات من خلال الشبكات الدولية networking، حيث برز التعاون استناداً إلى المصالح المشتركة غير القومية، مما أفرد تحالفات على المستوى الدولي، مثل الحفاظ على البيئة، أو في المجالات غير القانونية كتنظيف الأموال، والمافية الدولية للسلاح.
ولتطبيق هذه المسائل نلاحظ انطواء العولمة على درجة عالية من العلمنة، التي تغلب المادة، وتتمثل الحياة العاجلة، وتختزل الإنسان في بعده المادي الاستهلاكي، وأحياناً الشهواني، وقد عزز هذا الاتجاه المخادع افتقار وجود وعي عالمي، وتنكر الأفراد لهويتهم المحلية لحساب هوية عالمية.
آثار العولمة:
أ - في مجال حقوق الإنسان:
1- حقوق الإنسان في عصر العولمة مهدورة وغير جديدة، لكنها قد أثارت الجدل حول قضية مهمة وهي، هل الحقوق عالمية أم خصوصية؟. كما أثارت الحوار الخاص بالعلاقة بين الحقوق السياسية والمدنية، وأيهما له الأولوية على الآخر؟ بالإضافة إلى إثارة التساؤلات حول تطبيق هذه الحقوق ومسؤولية المجتمع الدولي عن حمايتها.
ومن أهم المسائل الخطيرة التي أثارتها العولمة والمتعلقة بحقوق الإنسان هي إلى متى سيبقى الإطار الأساسي لتطبيق حقوق الإنسان داخل سيادة الدولة وخاضعا لها في الإطار الدولي؟ وما هي آثار ضعف ونهاية الدولة على حماية الحقوق؟ الأمر الذي يعني أن حقوق الإنسان تواجه وضعاً أكثر صعوبة في عصر العولمة.
2- اقتصاد السوق في مواجهة حقوق الإنسان، لأن هذا الاقتصاد يتم من خلال الحدود المفتوحة، وحرية تنقل السلع، التي يغيب فيها التركيز على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، حيث يتم النظر إليها من منطق الربط القسري المستند على التجربة الغربية المرتبط باقتصاد السوق الأكثر قوة في عصر العولمة، وتصور السوق تصور خادع كلما تعلق الأمر بحقوق الإنسان، وهو يميل إلى تأكيد وترسيخ الفوارق الاقتصادية، وعدم التوازن في توزيع القوة، مما يؤدي إلى استغلال حقوق الطبقة العاملة، والجماعات الأخرى الضعيفة.
3- تمكن العولمة قوى غير حكومية، وفواعل غير الدولة من القوة والنفوذ الأمر الذي يشجع على انتهاك أو خلق ظروف تصعب معها حماية حقوق الإنسان، بمعنى أن حرية التعبير والتصرف تصبح في قبضة هذه القوى.
4- لما كانت العولمة تعكس تصوراً إيديولوجياً هو (نموذج الغرب) وتسوّق ثقافة الاستهلاك والتصدير، فإن ما يمكن الوقوف عليه من نتائج هو تصاعد العشوائية، واللامبالاة، وكره الأجانب، الأمر الذي يؤدي إلى حالة معقدة بالنسبة لترتيبات حقوق الإنسان.
5- إذا كانت ممارسة الديمقراطية وثيقة الصلة بإيديولوجية العولمة، التي تمثل طروحات الأقوياء والأغنياء، فإن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ستتعرض إلى الامتهان والتشويه وتصبح ضيقة إن لم تكن معطلة.
6- لما كانت العولمة مرتبطة بجملة من المتغيرات الاقتصادية والتقنية والاجتماعية، فمن المتوقع أن تكون لها اثارها النفسية المؤثرة على صعيد الفرد والمجتمع، بحيث تتيح تقنيات الاتصال، وما يتبعها من مهارات تعزيز الخصوصية والذاتية، الأمر الذي يساهم في عزلة الفرد وانطوائه، فتتضخم فرديته ونرجسيته، مما يؤدي إلى القلق والحذر والشك وعدم الأمان، كما أن التنافس والربح والمغامرة، ووهم الفرص السانحة يصيب بالإحباط وخيبة الأمل والكوارث من خلال التجربة والمعاناة، يضاف إلى ذلك ما تسببه الصدمة الثقافية من خلال التقنية والاتصالات من اهتزاز للقيم والأفكار والثوابت، بحيث توجد تناقضاً لا يسهل فهمه أو التعايش معه، وربما يقود هذا إلى السلبية والتعصب والتطرف، والى شعور بالنقص والضعف والعجز والاكتئاب، وقد تتطور الحالة إلى فقدان السيطرة على التعامل مع الأسرة والأصدقاء والمعارف من خلال ازدياد التوتر والاضطراب والتغير والتحول، إضافة إلى ما يمكن أن يحدث في ظل العولمة من استيراد وتصدير للأمراض الجسمية والنفسية والاجتماعية، والذي أصبح أكثر شيوعاً بين الشعوب من خلال العدوى والتاثر والتقليد، نتيجة تبادل المنتجات المتنوعة، ابتداءً من البشر والآلات والأطعمة، وانتهاء بالكتب والمجلات والأفلام، مما يعزز الشعور بعدم الأمان لدى الفرد والمجتمع.
ب - في مجال قدرات العولمة الاقتصادية:
لما كانت العولمة عملية معقدة من حيث تدفق التبادلات التجارية، والسرعة المتزايدة للتجارة الدولية، وقيمة تبادل البضائع، فقد أثرت على البيئة من خلال الاندفاع نحو التخصص والاستغلال المكثف للعمليات الإنتاجية، إذ قاد هذا الأمر إلى حالة من التدهور للمحيط البيئوي، والقضاء على الكائنات الحية التي أصبحت مهددة بالانقراض، كما أن تمييز العولمة بتسريع التبادلات المالية وتطوير الاستثمارات في الخارج قد أدى إلى تعميق الانزلاقات المالية والتحكم بها، مما جعل البلدان تتساهل بالأعباء الأجرية وتطبيق الضرائب والقوانين وتتسامح في مجال المعايير الاجتماعية والبيئة بقصد جذب أكبر عدد ممكن من الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية، بالإضافة إلى إيجاد المرونة في العقوبات، الأمر الذي أدى إلى إغراء الرساميل المتأتية من المؤسسات التي لا يهمها سوى الربح فقط. هذا الربح الذي لعب دوراً كبيراً في تحديد نوعية الحكم المستحسنة التي يتم فيها الانتقال من عالم دولي إلى عصر العولمة، هذا الحكم الذي يعني في أذهان بعضهم حكومة عالمية مكونة من بيروقراطيات مركزية عملاقة تدوس على حقوق الشعوب والدول وتتحكم بمصير الإنسانية، معتمدة لتنفيذ سياستها هذه دوراً وهمياً للحكومات والمؤسسات العالمية، وهذا ما ينطبق حالياً على حالة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وعلى الكثير من حكام الشعوب، وعلى المحافل الاقتصادية الكبرى. بالإضافة إلى اعتمادها ايضاً على العناصر الفاعلة التي تعد مساهمتها ضرورية في إدارة العولمة، وتشمل هذه من جملة ما تشمل منظمات المجتمع المدني، حقوق الإنسان، القطاع الخاص، البرلمانيين، السلطات المحلية، الرابطات العلمية والمؤسسات التعليمية.. الخ.
وتحتل الشركات العالمية مركزاً حيوياً في هذا المجال، لأنها هيأت الحيز الاقتصادي المؤثر على مستقبل الشعوب، لا بل على الدول في جميع أنحاء العالم، نتيجة الاتفاقات الدولية، والسياسات الوطنية وفقاً لمفهوم المواطنة العالمية، وحتى يكون السياق العالمي أكثر تكاملاً، فإنه يتطلب درجة عالية من اتساق السياسات وتقوية البنيان المالي الدولي، والنظام التجاري متعدد الأطراف، ويتطلب أيضاً المزيد من ا لتساوق فيما بين سياسات الاقتصاد الكلي، والسياسات التجارية والسياسات المتعلقة بالموازنة، والسياسات المالية والبيئية، بحيث تدعم جميعها الهدف المشترك المتمثل في توسيع نطاق فوائد العولمة، كما أنه من الضروري تحقيق تكامل فعال بين المناهج المتبعة في مجالات إتقاء الصراعات وبناء السلام.
باختصار أنه من الصعب قيادة دفة التحول إلى عالم أكثر عولمة باستخدام شذرات ناقصة، وغير متجانسة، الأمر الذي يستدعي تعبئة المهارات، وسائر موارد الجهات الفاعلة العالمية، التي تتطلب إقامة شبكات عالمية فضفاضة مؤقتة، وتأتي في الطليعة الأمم المتحدة للعب هذا الدور، لأنها في رأي قادة العولمة مؤهلة له، فباسمها كتب الميثاق وطموحاتها الهدف للقرن الواحد والعشرين.
مستقبل العولمة:
تشير معطيات الواقع على أن العولمة الأمريكية الحالية أصبحت مهزوزة، والمستقبل المنظور يشير أيضاً إلى أننا على أبواب عولمة لا تكون المنظمات الدولية ومؤسساتها، والتجمعات العالمية تحت هيمنة دولة واحدة، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هل ستقبل الولايات المتحدة الأمريكية بتمرير مثل هذا الأمر؟ والجواب لا قطعاً، لأن النموذج المطروح في الوقت الراهن هو الوحيد المناسب للمصالح الأمريكية، ولذلك علينا أن نتوقع معاداة الولايات المتحدة للعولمة المقبلة وتعويقها لها، فيما لو أتخذت مسارا غير المسار الراهن، ومن يدرك مقولة حتمية عولمة أو عالمية مقبلة، يدرك بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي ستأخذ على عاتقها سقوط العولمة الحالية، وتحول العولمة المقبلة لتكون طوع إرادتها كعولمة مستقبلية، وعلينا أن لا نستغرب من هذا الطرح ونحن نرى موقف الولايات المتحدة من الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، حيث باتت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة القادرة فعلاً على شل أي قرار تتخذه هذه المنظمة، كما أنها تجاوزت كل قوانين الأمم المتحدة دون أن يجرؤ أحد على محاسبتها، وهذا الواقع يعكس رفض الولايات المتحدة لأي عولمة تساير مبادئ الأمم المتحدة في تأمين حقوق الدول، واحترام سيادة الشعوب، وإذا ما سقط النموذج الأمريكي الحالي للعولمة، فإن الولايات المتحدة الأمريكية سترفض كل المحاولات المستقبلية التي تعتمد الأنسنة، وستسعى لإبقاء العالم في جو غائم وضبابي يمنعه من إدراك المسافة الفاصلة بين الأمركة والأنسنة، وهذه الضبابية لا تكون بالنسبة للإنسان العادي فقط، وإنما ستكون للاستراتيجيين أيضاً، ولعل هذا الأمر توضحه مليارات الدولارات المنفقة تحت شعار تحصين الأمن، ومكافحة الإرهاب، ليس فقط داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما يتعدى ذلك ليشمل الدول الأخرى، الأمر الذي يؤكد قدرة المفاهيم الليبرالية الأمريكية على تمويه حقيقة الواقع، وخلق واقع جديد، من خلال أساليبها الملتوية.
في كل الأحوال فإن النموذج الأمريكي للعولمة يبدو مكروهاً الآن، نتيجة التفرد الأمريكي وأنانيته، وأمريكا تدرك هذا الأمر، وتلاحظه، وهي الآن تحاول تلافيه وتجاوزه من خلال قيامها بخطوات جديدة نحو إحياء سياسة الأحلاف، وتحريك رصيدها القديم، والعالم يرى في هذا التوجه بداية تحول أمريكي جديد، وربما بدت أمريكا مقتنعة الآن بأن السيطرة على الأحلاف أكثر فائدة من السيطرة على الأسواق.
إن الأمم المتحدة وغالبية دول العالم ومنها النمور الآسيوية، والدول النامية ودول الأزمات الاقتصادية تكتشف الآن رداءة النموذج الأمريكي، الذي روجت له شائعات النظام العالمي الجديد، ولاحقها نهاية التاريخ، نهاية الايدولوجيا، نهاية القوميات، وغيرها من النهايات التي حاولت أن تقنع العالم بأن الزمن قد تجمد فراح الناس يستنسخون النموذج الأمريكي الذي فضح أمره، والذي كان في إطار الوهم أكثر مما هو في إطار الحقائق، وبأنه نموذج أسير مصالحه، وبعيد عن الإنسانية التي يدعيها، فراحت تنتقده وتبتعد عنه بعد أن ثبت كذبه وادعاؤه.
في كل الأحوال مازالت العولمة ظاهرة غير واضحة المعالم والأهداف، ولهذا يحذر من المبالغة بأهمية هذه الظاهرة، التي ما هي سوى برامج أمريكية تبنتها مؤسسات التمويل الدولية، وأكملتها اتفاقات التمويل الثنائية التي تربط أمريكياً بدول العالم، من أجل قولبة العالم اقتصادياً وثقافياً على وفق الإدارة الأمريكية، ونمط الحياة الأمريكي، وهي تمثل تغييراً لوجه الرأسمالية، وتجديداً لأثواب الإمبريالية، وقد فرضت وجودها لأن العالم قبل بهذا الفرض عنوة أو اختياراً، ولما كانت العولمة حقيقة لا يمكن إنكارها والواقع العربي والإسلامي الآن لا يسمح حتى بحرية الاختيار تجاهها نتيجة التجزئة والضياع الذي يعاني منه، بالإضافة إلى التحولات الدولية التي لا طاقة للعرب والمسلمين في تعديل اتجاهاتها.
ـــــــــــــــ
* أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق
1- العولمة الأمريكية تتوافق مع الدعوة الصهيونية التي تطالب لليهود بمواطنة عالمية، وجواز سفر عالمي، وفي اعتقادها أنها ستحكم العالم عندما يعود اليهود إلى أورشليم، إذ بعودتهم يعود الرب إلى بيته في بيت المقدس، حيث بيت الرب هو العاصمة العالمية.
أما المسيحية فترى بأن أول إنسان عولمي في تاريخ البشرية هو السيد المسيح، والذي أعلن أن ما يجب أن يوحد البشرية هو فكرة عليوية تتمثل بالأخوة والمساواة الكاملة، وليس الانتماء لعرق أو لشعب أو لدولة، لكن السيد المسيح لم يكن يقصد أن تحكم حكومة عالمية، وإنما ما قصده بالمخلص هو الأب السماوي.
أما الإسلام فتقوم عولمته على رد العولمة إلى عالمية الجنس البشري، والقيم السماوية المطلقة، واحترام خصوصية وتفرد الشعوب، والثقافات المحلية، عولمة تقوم على الحرية والعدالة، وتتجدد في كل زمان ومكان.
2- أبناء دول الشمال يمثلون 20% من سكان المعمورة، ويملكون ويستهلكون 86% من الإنتاج العالمي، و225 فردا منهم يملكون قرابة ما يملك نصف البشرية، لا بل فإن ثلاثة من الأمريكيين منهم يملكون ثروة تعادل ثروة 48 دولة من أعضاء الأمم المتحدة، كما أن 80% من البشرية قد بلغت ديونهم في سنة 1997 مليار دولار، وفوائد هذا المبلغ أربعة أضعاف ما تنفقه دول العالم الثالث على الصحة والتعليم مجتمعين، بالإضافة إلى أن الشركات المتعددة الجنسية تقترض الأموال من شركة (وول ستريت) بفوائد قدرها 6% ثم تفرضها على دول الجنوب بفائدة تتراوح ما بين 20 - 50% ولقد حصلت مصر على قرض منها قيمته 4 ملايين دولار وسددته 25 مليون دولار لهذه الشركات.
مصادر البحث
1- عبد المنعم الخفني: المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، مكتبة مدبولي، القاهرة.
2- بول هيرست، جراهام طومبسون: ما العولمة، عالم المعرفة، العدد 273.
- د. حسان المالح: نفسية ملاحظات العولمة.
- عبد الرزاق القشمعي: ما مفهوم العولمة.
- عمرو عبد الكريم: العولمة مفهوم.
- إبراهيم ناجي علوش: نقد برنامج التكيف مع العولمة.
- أدموند بيرك: العامل الإسلامي في الثورات.
- يوسف صوان: حقوق الإنسان في عصر العولمة.
- إبراهيم استنبولي: العولمة ماذا تعني حقاً.
- محمد عمارة: مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية.
- المركز العربي للدراسات المستقبلية: سقوط العولمة.
- تاريخ مفهوم وظاهرة العولمة.
- العولمة والتنمية.
- العولمة والحكم.
- الإسلام والعولمة، ملتقى الجزائر 13 أيار 2004م.