ظاهرة الاحتفال عند المغاربة (عاشوراء: طقوس ودلالات، نموذجا)
الحسين آيت باحسين*
تقديم:
إن الظواهر الثقافية والاجتماعية، في المجتمعات التي عرفت تجمعاتها السكانية استقرارا عريقا وجد متأصلا في مجالات واسعة كانت تشغلها أو في مجالات محدودة لا زالت تشغلها، تتسم (تلك الظواهر) بالتنوع والتعدد والتغير من حيث تكيفها مع كل مستجد؛ طبيعيا كان (تقلبات مناخية، كوارث طبيعية وغيرها) أو اجتماعيا (تغير البنيات الاجتماعية والأنظمة السياسية والاقتصادية) أو ثقافيا (تلاقح اللغة وتعاقب الديانات وتكيف الثقافة ومد وجزر الحضارة)؛ خاصة إذا كانت هذه المجتمعات مما يسمى ب مجتمعات بلا كتابة (« Sociétés sans Ecriture ») !
فإذا استحضرنا التنوع الجغرافي الذي يتسم به شمال إفريقيا من بحار (البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي بل والبحر الأحمر قديما حيث تمتد – آنذاك – تحركات التجمعات السكانية إلى حدوده وتجعل من مجاله مجالا إفريقيا لا أسيويا كما أريد له أيديولوجيا في ما بعد) وجبال ( خاصة منها الأطالس التي كانت موضوع كثير من الأساطير والأطماع، في الآن نفسه ومنذ القدم، إلى أن استطاع المحتل الأوروبي – كما يؤكد ذلك إميل لاووست (Emile LAOUST) – أن يشق من شمالها إلى جنوبها ومن شرقيها إلى غربيها الطرق) وسهول (خاصة منها المعتبرة بمثابة مخازن الحبوب وغيرها منذ الرومان) وصحاري (مجال التبادل التجاري النفيس)؛
وإذا استحضرنا تاريخ شمال إفريقيا عامة وتاريخ المغرب خاصة من خلال ما تركه المؤرخون في احتكاكه مع الأفارقة جنوب الصحراء ومع الفراعنة واليونان والرومان والبيزنطيين والوندال (Vandales) والقوط (Goths) والفيزيقوط (Visighots) والعرب والإسبان والبرتغال والفرنسيين (احتلالا أو اندماجا) وغيرهم من إنجليز وهولنديين وألمان (دبلوماسيا وتجاريا)؛
وإذا استحضرنا مختلف اللغات والثقافات والحضارات الإفريقية منها وغير الإفريقية (أوروبية كانت أو أسيوية) التي احتك بها سكان شمال إفريقيا؛
وإذا استحضرنا مختلف الأنظمة والتجارب السياسية والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية التي أنشأها سكان شمال إفريقيا عبر تاريخهم؛
وإذا استحضرنا مختلف الديانات التي اعتنق سكان شمال إفريقيا معتقداتها ومارسوا طقوسها من وثنية حين سادت الوثنية في المجتمعات البشرية، ويهودية ثم مسيحية فإسلامية حين ظهرت الديانات السماوية؛
حين نستحضر مختلف هذه الأبعاد، فإن المتأمل لهذا المجال الطبيعي والتاريخي والثقافي والمؤسساتي والحضاري يرى فيه، في نفس الوقت، الانفتاح على كل لغات وثقافات المجتمعات البشرية المحيطة به والتي احتك بها منذ فجر التاريخ، والصرح الثقافي والحضاري العريق والتنوع الذي لم يُذهب في أي وقت بوحدته.
إن من يتأمل هذا التنوع وذلك الانفتاح وكذا هذه الوحدة المستمرة التي دحرت كثيرا من الطامعين في النيل من وحدته هذه أمام عتبة أطماعهم:
- أولا: لا يمكن إلا أن يقر على أن عراقة المجتمع المغربي تتمثل في ذلك الثابت الذي يشكل خصوصيته التي تميزه عن غيره عبر كل التغيرات التي طرأت به منذ احتكاكه بغيره، سواء أكان ذلك الاحتكاك مرغوبا فيه أم مفروضا وشاملا أم جزئيا !
- ثانيا: لا يمكن من جهة أخرى استيعاب وفهم مختلف ظواهره الاجتماعية والثقافية إلا في إطار هذه المرجعية، أي في إطار علاقة الثابت بالمتغيرات أو في إطار المساهمة في الكوني والانفتاح عليه، دون التضحية بالخصوصي المميز عن الغير (تجارب التعامل مع المحتل عبر التاريخ) Assimilation) (.
إن ما دفعني إلى هذا التقديم، هو الاستغراب مما يدفع بعض السياسيين والمثقفين وكذا بعض المؤرخين والباحثين إلى التركيز على المتغيرات التي طرأت على الأمازيغ لسلبهم من كل خصوصية، بالرغم من أن كثيرا من هذه الظواهر الاجتماعية والثقافية والتنظيمات الاقتصادية والسياسية بل وحتى الدهنيات السيكولوجية الخاصة بهم، لا توجد في أي مجتمع من المجتمعات البشرية المتواجدة على كوكب الأرض !!!
ويبدو – إلى درجة اليقين – أن كل ما يفعله هذا الصنف من المعالجين للقضايا هو العمل على إرجاع كل ما يتناولونه ويعالجونه من قضايا بمختلف أنواعها إلى غير الأمازيغ !!!
أن يفعل ذلك غير المنتمين للأمازيغ، والذين لا يتقاسمون معهم لا المصلحة ولا المواطنة الحقة ولا القيم، شيء طبيعي أيديولوجيا؛ لكن أن يقوم بذلك من يدعي الدفاع والحفاظ على المصلحة والمواطنة والقيم وهي منه بريئة؛ فإذا كان الوطن غفورا رحيما، فالتاريخ لا ينسى ولا يرحم !!!
فلو أخذنا على سبيل المثال ظاهرة الاحتفال (Phénomène de Festivité) عند المغاربة، نلاحظ أن كثيرا من هؤلاء المعالجين يرجعون كل ما لا ينص عليه النص الديني أو التشريع الرسمي بصدد الاحتفال بمثابة ‘’بدع’’ (انظر رسالة في بدع عاشوراء لمحمد بن محمد العربي الرشاي الملقب بعاشور) وخرافات (انظر أدب المغاربة وحياتهم الاجتماعية والدينية وبعض خرافاتهم لمحمد بخوشة) و”آثار باقية عن القرون الخالية” (استلهام عنوان كتاب لمحمد أبو الريحان البيروني)؛ أو يعتبرون ذلك من “رواسب الجاهلية والوثنية” أو يرجعونه إلى “التأثر باليهودية أو المسحية” !!!
وهم، حين يفعلون ذلك، يركزون على المتغيرات (Les Variables) ولا يتجاوزونها إلى الثوابت (Les Constantes ou les Principes constants) ذات الطابع القيمي الإنساني والكوني، والتي تتخذ لها – ضمن كل حيز زماني ومكاني – طابعا خصوصيا ومتغيرا !!!
إنني لن أتناول، في هذا المقال، الجوانب المتعلقة بوصف طقوس الاحتفال ب عاشوراء عند المغاربة نظرا لتعدد وتنوع تلك الطقوس عبر الزمان والمكان؛ فذلك يحتاج إلى “دراسات مونوغرافية” (توجد منها الآن مجموعة ذات قيمة أدبية وأنتروبولجية جد مهمة) يساهم فيها باحثون متعددي الاختصاصات وفي مختلف المناطق المغربية؛ إضافة إلى جرد لما كتب عنها في مختلف اللغات والعصور !!!
إنني سأحاول فقط (في هذا المقال الصحفي) استخراج بعض الثوابت من بعض المغيرات التي تتداخل في الاحتفال ب عاشوراء عند المغاربة، وأقول عند المغاربة، لأن الاحتفال به في الشرق الإسلامي – خاصة في إيران وفي العراق – يطغى عليه “الطابع الحدادي” (طقوس الحزن والأسى وذكرى المأساة)، بينما يطغى عليه، في المغرب، “الطابع الاحتفالي” (طقوس العبادة والتقديس ومناسبة الاحتفال) !!!
والمقال لا يكتسي هنا – في هذه العجالة الصحفية – الصبغة الأكاديمية بمختلف مواصفاتها، إذ لنا عودة إلى الموضوع، لتدقيقه من هذه الناحية. فأية ثوابت وأية متغيرات من خلال احتفالات عاشوراء عند الأمازيغ عامة (شمال إفريقيا) وفي المغرب خاصة؟
أولا: عن المتغيرات (Au sujet de quelques Variables à ACHOURA):
1. في التسمية:
سواء انطلقنا مما كتب عن عاشوراء أو انطلقنا من التسميات المتداولة في مختلف المناطق التي يحتفل به فيها، فإن ما نلاحظه هو تعدد وتنوع تسميات الاحتفال ب عاشوراء !
فمن مرجعية قاموسية عربية يسمى: العاشوراء (ويكتب أيضا: العاشورا أوالعاشورى) والعشوراء (ويكتب أيضا: العشورا أوالعشورى) والعاشور؛ وفي المناطق الناطقة بالأمازيغية بالمغرب نجد أمعشور و تامعشورت و ئمعشار و تاعشورت و بوكفّوس و ؤداين ن عاشور أو ؤداين ن تعشورت و أمغار قيبّو و بابا عيشور وفي الجزائر بوليفا وفي تونس الشّايب عاشوراء وفي السنغال تامخاريت ؛ وغيرها من التسميات، وكلها تسميات في حاجة إلى تدقيقات للتمييز بين ما يطلق على الاحتفال نفسه وما يطلق على الشهر الذي يقام فيه الاحتفال، وبين ما يطلق على الطقوس التي تمارس فيه وما يطلق على شخوص المشاركين في العرض الاحتفالي، بل وما يطلق على احتفالات أو طقوس أخرى؛ تمارس في عاشوراء أو في غيره من المناسبات الاحتفالية الأخرى .
2. الظرف الزماني:
من وجهة نظر دينية، يتم الاحتفال به في اليوم العاشر من شهر محرم، الشهر الأول من السنة الهجرية. فقد روى كل من ابن عباس والبخاري ومسلم وأبو داوود أن النبي حين قدم المدينة “رأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجا الله فيه بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه”. وفي حديث آخر عن ابن عباس رواه عنه أبو داوود ومسلم أن النبي “صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه. قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. قال: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع” وزاد ابن عباس: “فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول الله”. والقصد من هذا – كما يذهب إلى ذلك الأستاذ عباس الجراري في كتيبه عن عاشوراء – هو مخالفة اليهود والنصارى، وهذه المخالفة تقتضي صوم التاسع وحده أو صوم التاسع مع العاشر. ويضيف: “وقد ذهب بعض العلماء في نطاق المخالفة إلى صوم العاشر وما بعده”.
أما من حيث الممارسة الشعبية، فإن الاحتفال يدوم أسبوعا أو أكثر(ويدوم لدى الشيعة في المشرق أربعين يوما)، وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار الاستعدادات للمهرجانات التي تقام بمناسبته، كما هو الشأن اليوم في كل من مدينة “تيزنيت” و”تيزي ن ئمناين” بمكَلميمة وما كان يقام في مختلف القرى المغربية قبل الحماية وأثناءها وكذا في أغلب المدن كمراكش والرباط التي تركت لنا مهرجاناتها أوصافا لما كان يقام بها بمناسبة عاشوراء على يد فقهاء وأدباء وإثنوغرافيين غربيين من طقوس وعادات وتقاليد ومظاهر اجتماعية وممارسات اقتصادية واحتفالات شعبية، يرتبط بعضها بالمعتقدات الدينية وبعضها الآخر ب “الدورة الفلاحية”؛ ؛ قبل أن يظهر، خاصة في بداية الستينات توجه لمحاربته بدعاوي دينية ومن خلفية أيديولوجية.
ولكن بما أن عاشوراء مرتبط بالعاشر من رأس السنة الهجرية، وبما أن السنة الهجرية سنة قمرية، فإن المناسبة من حيث ظرفها الزماني لا تستقر في زمان معين، فما يُحتفى به من الناحية الدينية يبقى ثابتا، وما يُحتفى به من وجهة نظر شعبية يبقى بعضه ثابتا وبعضه الآخر يتغير بتغير الأجيال وتغير الأزمان !
3. الظرف المكاني:
من الناحية الدينية، يبقى المسجد والمنزل وكدا المقبرة الفضاءات التي تتم فيها الطقوس المستحبة القيام بها بمناسبة يوم عاشوراء، كالصوم والصلاة وصلة الأقارب وزيارة العلماء والصدقة على اليتامى وزيارة المرضى وتلاوة القرآن والاغتسال والاكتحال وإخراج الزكاة والتصدق بالطعام؛ خاصة من زاوية المذهب السني وهو ما يمارس في المغرب. أما في المشرق، خاصة في إيران والعراق، فالفضاء هو المسجد أو الشوارع، حيث تقام طقوس الحزن والألم وذكرى “مأساة مقتل الحسين” ابن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء وحفيد الرسول، هو ومن كان معه في كربلاء حين طالب بحقه في الخلافة، من طرف الخليفة الأموي يزيد بن معاوية.
أما من حيث الاحتفالات الشعبية بالمغرب، فالساحة العمومية (“أسايس” بالقرى و”المشوار” بالمدن) تبقى الفضاء بامتياز لإقامة التظاهرات والمهرجانات والحفلات والطقوس، حيث يشارك الجميع من أطفال ونساء ورجال ويتقاسمون الأدوار التي تستدعيها تلك الحفلات والطقوس. فالساحة العمومية هي الفضاء الأمثل للمناصفة والتبادل وممارسة “الحرية في التعبير” و”الفعل” بين مختلف فرقاء الجماعة في “مجال محايد” (Espace neutre).
4. الظرف المناسباتي
كما تمت الإشارة إلى ذلك أعلاه، يعتبر عاشوراء يوم عيد من أعياد الإسلام، لكن ليس بدرجة “عيدي الفطر” و”عيد الأضحى” اللذين نص عليهما النص القرآني؛ إذ لم يرد بصدده في القرآن أي نص. والدعوة إلى صيام يوم عاشوراء اختياري ولم تتفق الأحاديث على يوم بعينه. إضافة إلى أن الأصل في صيامه يعود إلى عادة اليهود والنصارى وإلى عادة العرب في الجاهلية أيضا؛ وذلك قبل أن يسن الصوم في الإسلام. فالبعض يرجع هذا الصيام- صوم يوم عاشوراء قبل الإسلام – حمدا لله على أن نجى بني إسرائيل من فرعون والبعض الآخر يرجعه إلى نجاة نوح من الطوفان وغيره إلى خروج يونس من بطن الحوت أو إلى نجاة إبراهيم من النار أو إلى استغفار آدم ربه بعد أن طرد من الجنة !
وإذا أخذنا بعين الاعتبار مختلف الطقوس التي تمارس فيه، وكذا عدم استقراره في فترة معينة من السنة، وكذا عدم التعامل معه على أنه عيد نص عليه النص القرآني، نفهم لماذا اتخذه المغاربة فرصة لجعله “السد الطقوسي” (Captif de Rituels) الذي جمعوا فيه ممارسات وطقوسا وعادات وتقاليد متعددة ومتنوعة إلى درجة التناقض مع هو مفروض أن يقام فيه كمناسبة دينية. إن أغلبية هذه الطقوس ترتبط بمعتقدات ذات الصلة الوثيقة ب “الدورات الفلاحية” (Cycles agraires) وبالخصوبة (Fécondité & Fertilité) وب “المعتقدات الوثنية” (croyances païenne) التي تتمركز تصوراتها على علاقة الإنسان بالطبيعة وبالمبادئ التي تقوم وراء تدبير ظواهر الطبيعة.
ولكن في نفس الوقت نلاحظ أن عاشوراء، يعتبر المناسبة بامتياز- أكثر من غيره من الأعياد الدينية الأخرى – لممارسة “الاحتفال” بمختلف أبعاده “الدينية” و”الفرجوية” وكذا “التجارية”.
5. الظرف الطقوسي:
إذا كان الأصل في يوم عاشوراء – دينيا – هو صيامه، فإن ما يمارس بمناسبته أكثر من أن يحصى، سواء أخذنا بعين الاعتبار بعده الدياكروني أو بعده السانكروني أو أخذنا بعين الاعتبار منظور السنة إليه أو منظور الشيعة أو اتجهنا نحو تعامل الفئات الشعبية معه !
إن ما كتب عن عاشوراء يقدم لنا دليلا قاطعا عن هذا التنوع والتعدد في الطقوس العادات والتقاليد والمعتقدات الكامنة وراء هذا التعدد والتنوع. وإن دل على شيء، فإنما يدل على غنى وعمق وعراقة المجتمع المغربي وثقافته، وعلى قدرته على التكيف مع كل المستجدات، كما يدل أيضا على قوة الانفتاح على الغير إلى درجة تفضيله، لكن يدل أيضا على سهولة الأخذ وصعوبة التخلص مما يأخذ !!!
ومن هنا ضرورة البحث عن الثوابت التي تكمن وراء هذه المغيرات !
ثانيا: عن الثوابث (Au sujet des Principes constants):
نلاحظ مما سبق أن ما يتسم به عاشوراء، سواء تعلق الأمر بالتسمية أو الظرف الزماني أو الظرف المكاني أو الظرف المناسباتي أو الظرف الطقوسي، هو التعدد والتنوع و”الانفتاح على الغير”(L’OUVERTURE sur AUTRUI)؛ وباختصار، إن ما يهيمن على هذا المستوى هي المتغيرات، فما هي الثوابت التي يمررها عاشوراء؟
سأعالج هذه القضايا بنوع من الاختصار، لأنني سأعود إليها، في مقاربة غير صحفية؛ نظرا لأهميتها ولأن موضوعها هو الذي يشغل بالي في كل ما كتبته لحد الآن، مهما كانت المقاربات التي اعتمدتها ومهما كانت المواضيع التي عالجتها (وهي قضايا انفتاح الأمازيغ على الغير إلى درجة تفضيلهم للغير في كثير من الأحيان على الذات وعلى الأقارب؛ وكذا قضيا القيم الكامنة وراء هذا الانفتاح !).
1. “الوحدة في التنوع” (L’UNITÉ dans la DIVERSITE):
إن الثابت الأول الذي نستخلصه من المتغير الأول المتسم بتعدد التسمية وتعدد مرجعيات التسمية، هو “الوحدة في التنوع”. فتعدد التسميات وتعدد المرجعيات، وإن كان يدل على الانفتاح على الغير، لا يلغي هذه الوحدة التي كانت عبر العصور سمة المغاربة سواء منها على مستوى المذهبية الدينية أو على مستوى التنظيمات السياسية أو البنيات والمؤسسات الاجتماعية أو النظم الاقتصادية.
2. الاحتفالية في مواجهة الموت (Festivité contre la Mort):
أما الثابت الثاني الذي يمكن استخلاصه من المتغير الثاني المتسم بتعدد الأزمنة وكيفيات مواجهة هذه الأزمنة، فهو (“الاحتفالية” في مواجهة “الموت”)؛ فإذا كان عاشوراء عند البعض ذكرى مأساة الحسين ومناسبة التكفير عن ذنب عدم الالتحاق به للاقتتال، وبالتالي “فرصة تعذيب الذات” بإسالة الدماء بشكل أبدي (العودة الأبدية للطقس)، فإن الاحتفال بعاشوراء عند المغاربة يميل نحو ما هو كوني وطبيعي (“أسطورة العودة الأبدية” بالمعنى الذي يحدده “ميرسيا إلياد”: انفتاح الثقافات) (« Mythe de l’Eternel retour » au sens de Mircéa ELIADE: altérité des cultures) أكثر مما هو سياسي – اجتماعي (ذكرى مأساة مقتل الحسين بن علي حفيد الرسول الهاشمي من طرف يزيد بن معاوية الأموي). إنه يسعى إلى إعادة التوازن سواء تعلق الأمر بما هو طبيعي أو بما هو إنساني؛ ف “الاحتفالية في مواجهة الموت” تتوخى الحفاظ على التوازن بإعادته في كل زمان !
3. المناصفة (الإنصاف / التوزيع):
وأما الثابت الثالث الذي يمكن استخلاصه من المتغير الثالث المتسم بتعدد الأمكنة، فهو “الاقتسام” (Le Partage)، فالساحة العمومية (“أسايس” في القرية و”المشوار” في المدينة) بالمغرب رمز تدبير ما هو مشترك بشكل يتقاسمه فرقاء الجماعة، ورمز “الاقتسام” (أو بالتعبير المغربي “لوزيعا” لا بالمعنى القدحي بل بمعنى “تايسغارت” الأمازيغية) الذي يستفيد منه كل الفرقاء حسب قواعد متعارف عليها. ففي الساحة العمومية يتقاسم فرقاء الجماعة بالتعبير المغربي “لْحْلووّا ؤ لْمورّ!” (الحق في “الحقوق” وواجب “الواجبات”).
4. تدبير الصراع ( “الإنصاف” و”المصالحة”):
وبالنسبة للثابت الرابع الذي يمكن استخلاصه من المتغير الرابع المتعلق بتعدد الظرف المناسباتي، فهو “الإنصاف” (Equité) و”المصالحة” (Réconciliation). ففي عاشوراء كمناسبة احتفالية بالطريقة المغربية، يخلق الفرقاء مناسبة لتدبير الصراعات التي كانت تصاحب، طيلة سنة العمل، العلاقات والمعاملات في مختلف المجالات الاجتماعية منها والسياسية والاقتصادية وغيرها من حياة الجماعة. وبذلك تصبح الساحة العمومية مجالا للتعبير الحر الذي يخرج عن العادة والمألوف، ويدعو فرقاء الجماعة إلى إعادة التوازن الضروري لاستمرار المؤسسات نحو إنتاج ما هو أفضل للجماعة والنظر إلى المستقبل.
وليس بغريب أن تنجح عملية “الإنصاف والمصالحة” في المغرب مقارنة مع ما يسمى: ب العالم العربي والإسلامي . ففي واقع المغاربة ما ييسر ذلك، إنها هذه الأرضية التي يفرزها الظرف المناسباتي في مختلف تجلياته الاحتفالية، والتي تتسم بخصوصيته في تدبير الصراع ألا وهي: “المصالحة” و”المناصفة” و”الإنصاف”، هذه القيم التي يكمن وراءها الثابت الخامس ألا وهو “الهبة” بمعناها لا المادي بل بمعناها الأنتروبولوجي.
5. “الهبة” في مقابل “السن بالسن” (‘’Don contre Don’’ au lieu de ‘’Dent contre Dent’’):
لقد وصف الباحث الأنتروبولوجي محمد أركون يوما، حين سئل عن التعريف الذي يمكن أن يقدمه عن “الأمازيغ” ، بأنهم “هبة الكونية” (Don de l’Universel). بمعنى أنهم ساهموا في كل الحضارات والثقافات التي عرفتها البشرية، خاصة في حوض البحر الأبيض المتوسط. وبالفعل فقد “تنكروا” للغتهم وكتبوا في كل اللغات الأخرى التي احتكوا بأقوامها، وقدموا خدمات كثيرة لتلك اللغات ولثقافاتها وحضاراتها !
ولنعد إلى يوم عاشوراء، فبالنسبة للثابت الخامس الذي يمكن استخلاصه من المتغير الخامس، المتسم بتعدد وتنوع طقوسه، هو “الهبة” في مقابل “السن بالسن”، أي النزوع نحو تكريس كل القيم التي تمت الإشارة إليها ضمن الثوابت السالفة الذكر أعلاه عن طريق مبدإ “الهبة” التي تتجلى ماديا في التصدق على اليتامى وزيارة المرضى وإخراج الزكاة (لْعْشُورْ) والتصدق بالطعام في المساجد وتوزيع “الفواكه الجافة” (Fruits secs) وكذا “النقود” في المقابر وفي الأضرحة على المعوزين والمحتاجين، وغير ذلك من “الممارسات الهِبَوِيَة” التي تنزع نحو تقديم “الهبة مقابل الهبة” (Don contre Don) عوض النزوع نحو مبدأ “السن بالسن” (Dent pour Dent).
ولكن هناك مستوى آخر من “الهبة”، إنه “تقديم هبات معنوية” ولو أنها ذات طبيعة مادية، مثل “وضع هبات” من مختلف الأنواع قرب “أماكن مقدسة” (Lieux Sacrés) لإرضاء “الكائنات الغير المرئية” (Etres Invisibles) التي يُعتَقد على أنها المسؤولة عن تدبير ظواهر الطبيعة والكون ! إنها “هبات”، الهدف منها، “مشاركة الطبيعة” في إعادة توازنها كلما كان هناك إحساس باختلال توازنها (Participation au Rééquilibre de la Nature _ Environnement) !
بل إن أفراد الجماعة يمارسون طقوسا بالمناسبة يعتبرون فيها أنفسهم هبة للآخرين من أجل المساهمة في تحقيق وتكريس كل القيم التي تمت الإشارة إليها ضمن ثوابت الاحتفال بعاشوراء، وهي: “الوحدة في التنوع” (l’Unité dans la diversité) و الاحتفالية في مواجهة الموت (Festivité contre la Mort) و”الاقتسام” (Le Partage)، و”الإنصاف” (Equité) و”المصالحة”(Réconciliation) .
*الحسين آيت باحسين
باحث في الثقافة الأمازيغية