الاحتفال برأس السنة الأمازيغية
الحسين أيت باحسين
الحوار المتمدن-العدد: 3651 - 2012 / 2 / 27 - 01:06
المحور: المجتمع المدني
الحديث عن الاحتفال برأس السنة الأمازيغية يستدعي، لدى الأجيال الصاعدة وخاصة منها الناشئة في الحواضر، مجموعة من التساؤلات، من بينها:
- من يحتفل بهذه المناسبة وأين يتم الاحتفال بها؟
- ما هي دلالة مختلف التسميات التي تطلق عليها؟
- ما علاقة المناسبة بمختلف التقاويم المعمول بها في المغرب وفي غيره؟
- ما هو الحدث الذي اتخذ كمرجعية للتقويم الأمازيغي حتى ناسبت هذه السنة (2010 الميلادية و1431 هجرية) سنة 2960 أمازيغية؟
- ما هو توقيت ومدة الاحتفال بالمناسبة؟
- ما هي الطقوس الاحتفالية التي تتم أثناء هذه المناسبة وما هي دلالاتها؟
لا زال الاحتفال بهذه المناسبة يمارس في مختلف المناطق المغربية، سواء منها تلك التي يجد بها الناطقون بالأمازيغية أو الناطقون بالعربية، وسواء منها القروية أو الحضرية. كما أن كثيرا من المصادر وكذا مجموعة من الدراسات والأبحاث تخبرنا كيف أن هذا الاحتفال يشمل مختلف مناطق الشمال الإفريقي. ومنذ عقد من الزمان أصبح الاحتفال به ينتشر أكثر فأكثر في الدول الغربية حيث «الدياسبورا الأمازيغية (Diaspora amazighe)» ، كما هو الشأن بصفة خاصة في كل من فرنسا وإسبانيا وألمانيا وهولندا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية.
أما بصدد التسمية، ففي بعض المناطق المغربية يسمى الاحتفال بالمناسبة: «ئض ن ئنّاير» أو «ئض ن ؤسكًّاس»، وفي مناطق أخرى يطلق عليه «حاكًّوزا» أو «لحوادس»؛ وفي القبايل الجزائرية يطلق عليه «تاكًّورت ن ؤسكًّاس» أو «تابّورت ن ؤسكًّاس(Porte de l’année) » . ومع دينامية الحركة الأمازيغية، سواء داخل المغرب أو خارجه أو سواء في بلدان شمال إفريقيا أو في الدول الغربية حيث توجد الدياسبورا الأمازيغية، أصبحت التسمية المتداولة والشائعة هي: «ينّاير» أو «ئض ن ؤسكًّاس أمازيغ» (أي «رأس السنة الأمازيغية»). وتجدر الإشارة هنا إلى ضرورة التمييز، بصدد «ئنّاير»، بين بعده الاحتفالي (أي مختلف الطقوس التي تقام بمناسبة «ئض ن ؤسكًّاس أماينو» / «رأس السنة الجديدة» ودلالات هذه الطقوس) وبين بعده التقويمي (أي التوقيت الذي يقام فيه الاحتفال وكذا التقويم الذي يرتبط به والمرجعية التأريخية - الحدث المعتمد كبداية - لهذا التقويم).
من المعلوم أنه يتم العمل، في المغرب، بتقويمين أساسيين هما: «التقويم القمري» (Calendrier lunaire) و»التقويم الشمسي»؛ كما يتم العمل، ضمن التقويم الشمسي، ب»التقويم الكُريكُوري» (Calendrier grégorien) وب «التقويم اليولياني» (Calendrier julien) ، إضافة إلى التقويم العبري الذي هو «تقويم قمري - شمسي» في نفس الآن. وإذا أخذنا بعين الاعتبار مختلف هذه التقويمات وكذا مختلف اليوميات والتقويمات المعتمدة في المغرب سيتبين أن لدينا التقويمات التالية التي توافق هذه السنة ما يلي: سنة هجرية (1431 هـ)، سنة ميلادية (2010 م)، سنة رومية - فلاحية (2320 ر.ف.)، سنة فلاحية أمازيغية (2960 أ) وسنة عبرية (5770 ع). لكن، تجدر الإشارة إلى أن السنة الفلاحية الأمازيغية؛ التي يوافق فاتح يناير منها يوم 14 يناير من السنة الميلادية وفق التقويم الكًريكًوري المخالف للتقويم الميلادي اليولياني؛ هي تقويم شمسي - فلاحي ويخضع لتعاقب منتظم لفصول السنة وتغيرات الطبيعة المستمرة نتيجة فعل دوران الأرض حول الشمس. إنها الدائرة المنتظمة للدورة الطبيعية للسنة وللأشغال الفلاحية، الدائرة التي لا يمكن بدونها ضبط الدورات الفلاحية بسهولة. وبذلك يمكن القول بأن خصوصية هذا التقويم الفلاحي، العريق في الزمن التاريخي، هو بمثابة الأساس لتنظيم الزمن عند الفلاح.
وفي ما يتعلق بالحدث الذي اتخذ كمرجعية للتأريخ ل «السنة الأمازيغية» أي بداية ل «التقويم الأمازيغي» تجدر الإشارة - هنا أيضا - إلى أن تقاويم معظم الشعوب والحضارات الإنسانية هي عبارة عن مواضعات تستند إلى توافق لم ينل دائما قبول كل الواضعين لجذره وكل المعنيين بهذا التأريخ أي بداية التقويم. ففي السبعينيات اتخذ حدث وصول شيشونق «الأمازيغي»، سنة 950 قبل الميلاد، إلى هرم السلطة المصرية الفرعونية بداية للتقويم الأمازيغي . وشيشونق الأول هذا، هو سابع خليفة لقائد عسكري استغل ضعف السلطة الفرعونية فبسط نفوذه على هرقلة (Hierakléopolis) في مصر الوسطى، وقد غزا الدلتا وقسّم الأرض بين «الأمازيغ» وأسس الأسرة الثانية والعشرين وامتد حكم «الأمازيغ» كفراعنة في مصر إلى كل من الأسرة الثالثة والعشرين والأسرة الرابعة والعشرين ودام طيلة الفترة الممتدة من سنة 950 أو 945 قبل الميلاد إلى سنة 715 قبل الميلاد.
لكن، إذا ما تجاوزنا مشكلة الجذور التأريخية للتقويم الأمازيغي، وعدنا إلى امتدادات الاحتفال ذاته فإننا سنلاحظ بأنه يكاد يكون الاحتفال الوحيد الذي يقام خارج فضاءات المعابد من ضريح ومسجد وزاوية وغيرها من الفضاءات ذات الوظائف التعبدية؛ إنه «احتفال مدني بامتياز». كما أننا نلاحظ اليوم أن أغلب الاحتفالات التي تختص بها كثير من الشعوب والحضارات والثقافات المعاصرة؛ وحتى المتقدمة منها والمتطورة علميا وتكنولوجيا وغيرها من المعالم والمواصفات الحضارية المعاصرة؛ هي احتفالات مرتبطة بالطبيعة. والإشارة هنا تتعلق ب «الاحتفالات الوطنية الطبيعية» (أي غير الاحتفالات الدينية والسياسية) التي تتميز بها تلك الشعوب والحضارات والثقافات المتقدمة. فلنستحضر «كرنفالات مختلف الدول الأوروبية والأمريكية» و»التينين الصيني» و»سباق أسعد رجل السنة الياباني» و»النيروز الإيراني» وغيرها من احتفالات طبيعية تقيمها هنا أو هناك بلدان متقدمة ومتطورة؛ ولن أتعب نفسي في تعداد العشرات من كرنفالات إفريقية لكون بلدانها لا تنتمي إلى »معسكر الدول المتقدمة ».
وفي ما يتعلق بتوقيت ومدة الاحتفال ب«ئض ن ينّاير»، فاعتمادا على بحوث ميدانية في مختلف مناطق المغرب تأكد لنا أن «ئض ن ؤسكًّاس أماينو» يوافق منتصف ما يسمى في «التقويم الفلاحي الأمازيغي» ب «ليالي مقّورن» أي «ليالي لكبيرة» والتي تبدأ يوم 25 دجنبر «الميلادي- الكَريكَوري» وتدوم 40 يوما وتسمى «ليالي لكبيرة» مقارنة ب «ليالي حيان» أو «ليالي صغيرة» التي تدوم 7 ليال و7 أيام. وبذلك يعتبر «يوم 14 يناير الميلادي - الكَريكَوري» هو «فاتح السنة الأمازيغية» و«ليلة 13 من يناير الميلادي - الكَريكَوري» هي «ليلة رأس السنة الأمازيغية». أما لماذا يتم الاحتفال بليلة السنة الأمازيغية من طرف البعض ليلة 11 أو ليلة 12 أو ليلة 13 من يناير الميلادي - الكَريكَوري، فمرد ذلك يعود إلى كون مدة الاحتفال في الأصل كانت تدوم من 3 أيام إلى سبعة أيام (بحيث يدوم الاحتفال 3 أو 4 أو 5 أو 7 أيام). وهذا ما تمت معاينته من قبل الباحثين في مختلف الفترات التاريخية وحسب المناطق ووفق الإمكانيات البيئية والأسرية في تمديد الاحتفال إلى 7 أو 5 أو 4 أو 3 أيام للقيام بكل الطقوس التي تستلزمها المناسبة. ففي المغرب على سبيل المثال تم تسجيل تراجع مدة الاحتفال من 3 أيام إلى يوم واحد، بل واختفاؤه في فترات أو في بعض المناطق أو المدن. ولم ينتعش إلا مع «التجديد الثقافي الأمازيغي» وعمل الحركة الأمازيغية على»إكساب المناسبة دلالة رمزية ثقافية واجتماعية«.
أما في ما يخص طقوس الاحتفال ب «رأس السنة الأمازيغية» فيمكن التمييز بين «طقوس تحضيرية» و»طقوس تطهيرية» و»طقوس تغذوية» وبين «طقوس صيدلية» و»طقوس تجميلية» و»طقوس رمزية». فكما هو الشأن بالنسبة لكل احتفال يتم التحضير ل «ئض ن ؤسكًّاس أماينو» ماديا ومعنويا وفي جو يجمع بين مظاهر الحزن المتمثلة في مصاحبة الطبيعة في موتها في زمن «انقلاب الشمس الشتوي» (Solstice d’Hiver) وبين مظاهر الفرح المتمثلة في العمل على التأثير في الطبيعة لتكون السنة الفلاحية الجديدة خصبة؛ في انتظار حلول فصل الربيع حيث تقام «طقوس الخصوبة» بمناسبة «الاعتدال الربيعي» (Equinoxe de printemps) حيث يتعادل الليل والنهار. أما «الطقوس التطهيرية» فتتجلى في ما يتم القيام به من أجل التخلص مما هو قديم وكسب أشياء جديدة بديلة لتلك التي تم التخلص منها تيمنا أن تساهم في الحصول على كل ما من شأنه أن يجعل ما سيأتي أكثر حظا وسعادة. أما «الطقوس التغذوية» فتتجلى في مختلف التمثلات والممارسات المصاحبة لأنواع الأكلات التي تُهيأ بالمناسبة والتي تتوزع على عدة أيام، وقد تراجعت اليوم إلى إعداد أكلة واحدة في «ليلة رأس السنة الأمازيغية». إن تهييء تلك الأكلات كان وفق جدولة زمنية تراعي عملية مرافقة الطبيعة في «موت الأرض» و»انبعاثها من جديد» في بداية السنة الجديدة، خاصة وأن «ليلة رأس السنة الأمازيغية» «تــــوافــــق» أطول ليلة في السنة على الإطلاق وبعدها سيبدأ الشروع في امتداد طول النهار وقِصَر الليل على موعد أن تكون مناسبة «لعنصرا»: زمن «انقلاب الشمس الصيفي» (Solstice d’été) حيث تتم «طقوس الماء». وهذه المناسبة «تــــوافــــق» أطول يوم في السنة على الإطلاق وبعدها سيبدأ الشروع في امتداد طول الليل وقصر النهار إلى حين تعادلهما بمناسبة «الاعتدال الخريفي» (Equinoxe d’Automne) حيث كانت تقام «طقوس النار» وبعدها يطول الليل ويقصر النهار إلى حين إتمام «الدورة الطبيعية» بعودة «انقلاب الشمس الشتوي» من جديد ويتم الاحتفال من جديد ب «ليلة السنة الأمازيغية الجديدة».
بصدد «الطقوس الصيدلية» تكفي الإشارة إلى أن الأدوية المهيأة هذه الليلة (ليلة رأس السنة الأمازيغية)؛ انطلاقا مما يتم قطفه من نباتات وأعشاب طبية معروفة بعينها تتوارث معرفتها أجيال عن أجيال؛ تعتبر ناجعة، وطيلة السنة. وأما بصدد «الطقوس التجميلية» فتكفي الإشارة أيضا إلى أن خضب الحناء واستعمال الكحل هذا اليوم هو ممارسة عامة أثناءه، وتمتد هذه الممارسة إلى بعض الرجال الذين يبررون مشاركتهم النساء في تلك الممارسة في مرجعية دينية مستندة إلى حديث نبوي. وفي ما يخص «الطقوس الرمزية»، فيمكن أيضا الاقتصار على «الطقوس التنشئوية الثقافية والاجتماعية» أي تنشئة الأطفال على الموروث الثقافي والاجتماعي. ويتجلى ذلك في «الألعاب الطقوسية» التي يقوم بها الأطفال، خاصة منهم الفتيات اللائي يصنعن دُمية في هيأة عروس معروفة في بعض المناطق ب «تاغُنجا» التي هي في الأصل (تّلْغنجا) والتي تعني لفظيا «لف المغرفة»: بحيث تلف الفتيات مغرفة كبيرة بثياب على هيأة عروس) ويطفن بها طلبا للمطر وتيمنا أن تكون السنة الجديدة ممطرة أكثر ويكون المحصول جيدا. كما أن هذه الطقوس الرمزية تتمثل في كل ما يتم القيام به للتمييز بين الفترات التي ينبغي تجنب العمل خلالها الأرض (فترات النحس) وبين الفترات الملائمة (الفترات المباركة) للقيام بأشغال الفلاحة (من حرث وحصاد وغيرهما).
وأخيرا أعود لأقول بأن الاحتفال ب «رأس السنة الأمازيغية» تراجعت مدته بالتدريج منذ عقود، بل وبدأ اختفاؤه في فترات أو في بعض المناطق ولم يعد ينتعش إلا مع التجديد الثقافي الأمازيغي وعمل الحركة الأمازيغية على إكساب المناسبة دلالة رمزية ثقافية واجتماعية. وتتمثل هذه الدلالة في ضرورة الحفاظ على هذا «التراث اللامادي» )أي الاحتفال برأس السنة الأمازيغية)، مع السعي إلى تطويره ليساهم في الدينامية الجديدة للثقافة الوطنية وذلك من أجل تثمين الذاكرة الجماعية والتاريخ الوطني. فمنذ بداية استقلال المغرب كانت مذكرات وزارة التربية الوطنية تدمج في عطل الأجيال الصاعدة بعض المناسبات (مثل العنصرة وعاشوراء) التي لم تعد تحظى اليوم بذلك «الوضع التنشئوي- التثقيفي» . وستكون مبادرة وطنية لجعل «رأس السنة الأمازيغية»، ليس فقط «عيدا وطنيا للفلاح» ورد الاعتبار لثقافة الفلاح وربطه أكثر بالطبيعة وب«الفلاحة البيئية»، بل «عيدا وطنيا لكل المغاربة» وإضافة نوعية في «مسلسل المصالحة مع الذات» و«تثبيت الجذور الثقافية والاجتماعية» التي من شأنها أن تعزز انتماء الأجيال القادمة لوطنها و«الاعتزاز بامتدادات هذه الجذور في الزمان والمكان». كما أن مبادرة دولية مماثلة تجعل من هذا اليوم «تراثا لاماديا عالميا» من شأنها أن تدعم «المبادرات السلمية والبيئية» التي يسعى المنتظم الدولي إلى جعلها قيما كونية ينبغي غرسها لدى الأجيال الصاعدة. وذلك لأن مختلف التمثلات والممارسات المصاحبة ل «الاحتفال برأس السنة الأمازيغية»، إذا ما تأملنا فيها من حيث غاياتها الجوهرية ودلالاتها الرمزية، تنخرط في هذه الدينامية القيمية التي يسعى المنتظم الدولي إلى تجذيرها في «الثقافة القيمية الكونية» (ثقافة القيم الكونية)، خاصة لدى الأجيال الصاعدة، نساء ورجال المستقبل التي تبدو «الرهانات البيئية» من أهم القضايا التي عليهم أن يجدوا لها حلولا تضمن لهم مستقبلا السلم والأمن اللذين علينا أن نساهم؛ نحن بدورنا؛ في توفير سبل وشروط تحقيقها؛ بدءا بحقوقهم الثقافية والاجتماعية التي يفتحون أعينهم، منذ ولادتهم، في أحضانها.
الحسين آيت باحسين
باحث في الثقافة الأمازيغية
نشر بجريدة العلم (العلم الأمازيغي) بتاريخ:20 يناير 2010.
ملحوظة:
لتدقيق بعض القضايا الواردة في هذا المقال والتي تحتاج إلى تدقيق أضيف هذا الحوار الذي أجريته مع نفس الصحفي الذي نشر المقال أعلاه منذ سنتين. وأعتذر مرة أخرى لعدم التمكن من إدماج بعض الصور المدعمة لبعض المواقف:
الأفكار تتضارب بين حول تواريخ الاحتفالات برأس السنة الأمازيغية
(تقويم الفلكيين والنساء المسنات والرجال المسنين والفقهاء المهتمين مضبوط)
"ئض ن ؤسكَّاس"، "ئخف ن ؤسكَّاس" و"أسكَّاس أمازيغ أماينو" لا تعني نفس الشيء !
- لحدث رأس السنة الأمازيغية دلالة خاصة بالنسبة للجمعيات الأمازيغية والحركة الأمازيغية على العموم ، ما السر في ذلك؟
في البداية أود أن أشكركم؛ من جهة على إتاحة الفرصة لي للعودة إلى التطرق لهذا الموضوع؛ إذ سبق لكم أن نشرتم حوارا حول نفس الموضوع بجريدة العلم (العلم الأمازيغي) بتاريخ:20 يناير 2010 ومن جهة أخرى لكون المطالبة، باعتبار رأس السنة الأمازيغية عيدا وطنيا أو يوم عطلة، تستلزم الاتفاق على بعض الأمور أهمها تاريخ رأس السنة الأمازيغية الذي نجد اختلافا حوله، خاصة في بعض مواقع الأنترنيت وفي تواريخ الاحتفال به من طرف بعض الجمعيات الأمازيغية.
وعودة إلى سؤالكم، تجدر الإشارة إلى أن الاهتمام بالاحتفال بهذه المناسبة عريق تاريخيا ومنتشر جغرافيا؛ لا في المغرب وحده بل في كل بلدان شمال إفريقيا.
فقبل أن تهتم به بعض الجمعيات الثقافية الأمازيغية في البداية؛ هنا وهناك، خاصة في كل من المغرب والجزائر وتلتحق بها الحركة الأمازيغية، في ما بعد، في كل بلدان تامازغا وكذالك في الدياسبورا؛ كانت الأسر في مختلف بلدان تامازغا تحرص على الاحتفال به (ضمن التقويم الشمسي) نظرا لكونه يصادف رأس السنة الفلاحية الموافقة لفاتح يناير من التقويم اليولياني (Calendrier julien) والتي تبتدئ يوم 14 يناير من التقويم الكَريكَوري (Calendrier grégorien). وكانت هذه الأسر، وخاصة في العالم القروي حريصة على الاحتفال به ضمن «طقوس تحضيرية» و»طقوس تطهيرية» و»طقوس تغذوية» و«طقوس صيدلية» و»طقوس تجميلية» و»طقوس رمزية». وبذلك يكتسي هذا الاحتفال طابعا فلاحيا في الدرجة الأولى ويرتبط بالدورة الطبيعية للسنة الفلاحية وبمعتقدات الفلاحين وتمثلاتهم المرتبطة بعلاقة الإنسان بالطبيعة وب"القوى الماوراء الطبيعية".
لكن، في أواخر الستينيات ومع ظهور الحركة الأمازيغية كحركة جمعوية ثقافية، بدأ هذا الاحتفال يكتسي طابعا هوياتيا. فقد بدأ الاهتمام بالبحث عن أسس بناء الهوية الأمازيغية القائمة على وعي عصري ينبني على التاريخ والوعي بالذات والتمييز عن الغير. فتم الاتفاق على حدث أوردته وأرّخت له النصوص القديمة (المصرية الفرعونية والعبرية التوراتية) ألا وهو اعتلاء شيشونق الأول عرش مصر الفرعونية سنة 950 قبل الميلاد؛ كبداية للتقويم الأمازيغي؛ رغم أن تواجد الأمازيغ ضمن النظام الفرعوني ودواليب مؤسساته سابق على ذلك التاريخ.
كما أن الاهتمام على هذا المستوى (أي مستوى الحركة الأمازيغية) بدأ في البحث عن الدلالات الثقافية، وخاصة منها السوسيولوجية والأنتروبولوجية، التي تكمن خلف تلك الطقوس التي تمارسها الفئات الشعبية في مختلف بلدان تامازغا، الناطقة منها بالأمازيغية أو بالعربية، التي من شأنها أن تساهم في إغناء الثقافة والهوية الأمازيغيتين خاصة والمغاربيتين عامة.
- تختلف الاحتفالات في المغرب بهذه المناسبة من منطقة إلى أخرى: فهناك من يحتفل بهذا اليوم من خلال تهيئ "تاكولا" وآخرون يعدون موائد تسمى "سبع خضاري" أو "البسيس" في مناطق أخرى؛ الشيء الذي يجعل الاحتفال بهذا الحدث مرتبط برأس السنة الفلاحية؛ هل من تشابه أو فرق بين الحدثين؟
سؤالكم هذا مهم جدا، وأهميته تكمن في كونه يشير، من جهة إلى وحدة المناسبة من حيث توقيتها، ومن جهة أخرى إلى غنى التنوع من مختلف الطقوس التي تمارس بالمناسبة. لقد تمت الإشارة أعلاه إلى مختلف أنواع الطقوس التي تمارس بالمناسبة، لكن سنكتفي هنا بالطقوس التغذوية التي أشرتم إليها. يبدو من خلال مختلف الدراسات الإثنولوجية التي قام بها باحثون منذ ما يزيد عن قرنين، ومن خلال ما تناثر هنا وهناك في بعض كتابات التاريخ الاجتماعي لبلدان شمال إفريقيا، وكذا من خلال العادات التي لا زالت تقام في مختلف مناطق المغرب وفي البلدان الأخرى لشمال إفريقيا، أن هذه الطقوس التغذوية رهينة بأمرين:
الأول: مرتبطة بعدد أيام الاحتفال، إذ في كل يوم يقام طقس تغذوي معين وذو دلالة سوسيو ثقافية معينة ومستهدف لمسايرة الطبيعة في تحولها الجدري في هذه اللحظة من السنة. لقد أشار الباحثون إلى أن عدد أيام الاحتفال تقلص من 7 أيام إلى 5 أيام ثم إلى 3 أيام فيوم واحد؛ بل وانقرض في بعض المناطق، وخاصة في المدن؛ ولم ينتعش إلا في هذه السنوات الأخيرة.
الثاني: مرتبط بأنواع الأطباق التي تهيأ بالمناسبة، ففي كل منطقة تهيأ أطباق مما تجود به الطبيعة في كل منطقة ومما يتوفر لدى ساكنة كل منطقة من تلك المناطق. ولايستثنى من ذلك لا المناطق الناطقة بالأمازيغية ولا الناطقة بالعربية؛ كما لا تستثنى منه لا المناطق الشمالية ولا الجنوبية ولا الشرقية ولا الغربية في المغرب.
فهناك من يهيئ طابق "تاكَلاّ" (العصيدة) وهي أنواع سواء من حيث أنواع الحبوب التي تهيأ من دقيقها أو من حيث ما يضاف إليها من أنواع الدقيق الزكي أو أنواع الزيوت؛ وهناك من يهيئ طابق "الدجاج مصحوبا بالبيض"وهناك من يهيئ طابق"سّكسو ب 7 خضاير" (الكسكس المهيأ ب 7 أنواع من الخضر)؛ أو "بركوكس د ؤملو" (الكسكس الغليض المسقي بزيت أملو)؛ أو "بركوكس د ؤملو د تامّنت" (الكسكس الغليض المسقي بزيت أملو والعسل)؛ أو "تّريد د ؤفولّوس" (أنواع من الرقائق الخاصة المسقية بإدام الدجاج والمؤفقة بلحم الدجاج)؛ أو "أوركيمن" (خليط من الحبوب المجففة وسيقان الغنم أو المعزالمطهوة طيلة اليوم تحت نار هادئة)؛ "بغرير" أو "إدرنان" (رغائف رقيقة وهي كذلك أنواع من حيث أشكالها أو من حيث المواد التي تهيأ منها)؛ "لبسيس" (نوع الحلوى المهيأة بدقيق خاص ممزوج بأنواع من النباتات الطبية والزكية)؛ "لفاكيا" (أنواع من الفواكه الجافة)؛ "تيروفين" أو "تيغواوين" (بذور الشعير أو القمح أو الذرة التي تم قليها فوق لهيب نار بمقدار لا تحترق معه) وغيرها من أطباق لا توجد لحد الآن دراسات يمكن حصرعددها وأنواعها. وكل ما يمكن قوله هو أنها متعددة ومتنوعة كما هو الشأن بالنسبة لكل المظاهر الطبيعية والثقافية لبلدنا. وهي إرث جد غني لا من حيث أنواعها ولا من حيث المعارف الأدائية التي تعتمد في تهييئها؛ بل وفي ضرورة الحفاظ على كل العناصر الطبيعية والبيئية التي تعتبر مصدرا لها ولتلك المعارف الأدائية؛ وهي في طريق الانقراض نتيجة تراجع الاحتفال بهذه المناسبة.
- ليس هناك كذلك تاريخ موحد لهذا الاحتفال هناك من يقول إن الاحتفال يكون يوم 12 يناير من كل سنة وهناك من يقول إنه يوم 13 يناير، هل من سبب لذلك؟
في هذا الصدد ينبغي التمييز بين فئتين:
الأولى تتمثل في كثير من المقتصرين على ما ينشر في الأنترنيت أو في بيانات جمعيات الحركة الأمازيغية، خاصة منهم من لا يتفحص ويتأكد مما يقرأ؛ فهؤلاء تتضارب أقوالهم بصدد تواريخ الاحتفالات وتاريخ بداية السنة الفلاحية / الأمازيغية. ولا يمكن الاعتداد برأي أغلبهم.
الثانية تتمثل في علماء الفلك وعلماء مختلف التقاويم البشرية المعروفة عالميا كما تتمثل في النساء المسنات والرجال المسنين وكذا بعض الفقهاء الذين لديهم قياسات زمنية تهم الدورة الفلاحية (التقويم اليولياني) والتي يتقنون حسابها والتمييز بينها وبين التقويم الهجري من جهة وبين التقويم الميلادي أو الإداري (أي التقويم الكَريكَوري) من جهة أخرى. وهؤلاء ينبغي الاعتماد على قياساتهم وحساباتهم فهي مضبوطة وتقوم على قياسات تعتمد جهازا اصطلاحيا متمايزا عن اصطلاحات التقاويم الأخرى؛ يتقنه كل من الفلكيين والنساء المسنات والرجال المسنون وكذا الفقهاء المهتمون بهذا التقويم الفلاحي.
إضافة إلى هاتين الملاحظتين، ينبغي التمييز بين "ئض ن ؤسكَّاس" (ليلة رأس السنة أي الليلة ما قبل بداية السنة الجديدة) الذي يصادف يوم 13 يناير الميلادي أو الكَريكَوري من كل سنة؛ وبين "ئخف ن ؤسكَّاس" (رأس السنة الجديدة أو بداية السنة الجديدة) الذي يصادف يوم 14 يناير الميلادي أو الكَريكَوري من كل سنة؛ وبين "أسكَّاس أمازيغ أماينو" (السنة الأمازيغية الجديدة) الذي يصادف هذه السنة 2962 ⵣ.
- بصفتك باحثا في الأنثروبولوجيا، أيمكن لهذه الذكرى أن تصبح يوما عيدا وطنيا في المغرب؟
من هذه الزاوية، لا أقول فقط يمكن أن يصبح كذلك، بل أدعو كل المسؤولين على العمل من أجل اعتباره يوم عطلة لكل المغاربة. وسيكون سبقا آخر للمغرب بالنسبة لكل بلدان تامازغا. كما أن دلالات اعتباره كذلك سيكون له شأن وأي شأن ثقافي، بيئي بل وسياسي. لأنه كما سبق وأن قلت في حوار نشر بجريدة العلم (العلم الأمازيغي) بتاريخ:20 يناير 2010، إنه «احتفال مدني بامتياز».
إذ أننا نلاحظ اليوم أن أغلب الاحتفالات التي تختص بها كثير من الشعوب والحضارات والثقافات المعاصرة؛ وحتى المتقدمة منها والمتطورة علميا وتكنولوجيا وغيرها من المعالم والمواصفات الحضارية المعاصرة؛ هي احتفالات مرتبطة بالطبيعة. والإشارة هنا تتعلق ب «الاحتفالات الوطنية الطبيعية» (أي غير الاحتفالات الدينية والسياسية) التي تتميز بها تلك الشعوب والحضارات والثقافات المتقدمة. فلنستحضر «كرنفالات مختلف الدول الأوروبية والأمريكية» و»التينين الصيني» و»سباق أسعد رجل السنة الياباني» و»النيروز الإيراني» وغيرها من احتفالات طبيعية تقيمها هنا أو هناك بلدان متقدمة ومتطورة؛ ولن أتعب نفسي في تعداد العشرات من كرنفالات إفريقية لكون بلدانها لا تنتمي إلى »معسكر الدول المتقدمة».
ويمكن الرجوع إلى مقال نشر بجريدة العلم (العلم الأمازيغي) بتاريخ:20 يناير 2010، من أجل الاطلاع على بعض المعلومات المفصلة بصدد نفس الموضوع أو العودة إلى هذا الرابط:
https://www.facebook.com/note.php?note_id=151762354873397
وفي ما يلي نماذج من اليوميات التي تقوم على قياسات فلكية مضبوطة تتثبت أن فاتح السنة الأمازيغية تصادف يوم 14 يناير من التقويم الميلادي أو ما ينعث في المغرب بالإداري (أي التقويم الكَريكَوري)؛ أو ما نعت في التقويم التونسي ب "يناير العجمي" !!!
الحسين أيت باحسين
حاوره الصحفي السيد عزيز اجهابلي
نشر بجريدة العلم (العلم الأمازيغي) العدد: 22185، بتاريخ: الأربعاء 18 يناير 2012، ص. 9.