صيدة النثر: جنس أدبي يُمكن أن نطلق عليه شعراً منثوراً أو حراً، لا تتقيَّد بوزنٍ
أوقافية ولكنَّها تعتمد إيقاعاً داخلياً وصوراً شعرية مكثَّفة ومُبتكرة، نص سردي في الغالب،
ويتكون من جملٍ قصيرة تُكوِّن فقرة أو فقرتين، وتبتعد عن المحسنَّات البديعية.(1)
صدرت أول مجموعة عربية من نوع (الشعر المنثور) عام 1910م, وهي بعنوان
(هتاف الأودية) لأمين الريحاني, وقد كتب أمين الريحاني مقدمة لمجموعته ننقلها كاملة
, (يدعى هذا النوع من الشعر الجديد بالفرنسية Vers Libres, وبالانجليزية -
- Free Verse أي الشعر الحر الطليق, وهو آخر ما اتصل إليه الارتقاء الشعري
عند الافرنج وبالأخص عند الانجليز والامريكيين. فشكسبير أطلق الشعر الانجليزي
من قيود القافية. أما والت ويتمان - Walt Witman فقد أطلقه من قيود العروض
كالأوزان والأبحر العرفية. على أن لهذا الشعر الطليق وزنا جديدا مخصوصا.
وقد تجيء القصيدة فيه من أبحر عديدة ومتنوعة. والت ويتمان هو مبتكر هذه
الطريقة وزعيمها. وقد انضم تحت لوائه بعد موته كثير من شعراء أمريكا وأوروبا
العصريين. وفي الولايات المتحدة اليوم, جمعيات (وتمنية), بين أعضائها فريق
من الأدباء المغالين بمحاسن المتخلقين بأخلاقه الديمقراطية, المتشيعين
لفلسفته الأمريكية, اذ أن مزايا شعره, لا تنحصر بقالبه الغريب الجديد فقط
بل بما فيه من الفلسفة والخيال مما هو اغرب وأجد).
لنأخذ من مجموعة الريحاني, النص التالي وهو بعنوان (إلى جبران) على سبيل المثال:
على شاطئ البحر الأبيض
بين مصب النهر وجبيل
رأيت نسوة ثلاثا يتطلعن إلى المشرق
الشمس كالجلنار
تنبثق من ثلج يكلل الجبل
امرأة في ثوب أسود
وقد قبل التهكم فمها الباسم
امرأة في جلباب أبيض
نطق الحنان في عينها الدامعة
امرأة ترفل بالأرجوان
في صدرها للشهوات, نار تتأجج
ثلاث نسوة يندبن تموز
يسألن الفجر: هل عاد يا ترى, هل عاد!!
رأيته في باريس مدينة النور
يحيي الليالي على نور سراج ضئيل
رأيت بنات تموز, نسوة الخيال
يطفن حوله, في سميرات باريسيات
ورفيقات أمريكيات
يزدنه بهجة, شوقا, ألما ووجدا
البيضاء الجلباب
تفتح له أبواب الفن والجمال
السوداء الثوب
تقلب صفحات قلبه
تطويها بأنامل ناعمة باردة
الأرجوانية الوشاح تقف بين الاثنتين
أفرغت الكأس
كانت الروح مستيقظة... الخ- (1)
أولا: يستخدم الريحاني في مجموعته (هتاف الأودية) عدة أنماط كتابية,
فهو يستخدم القافية في بعض النصوص وينثرها بحرية على السطور الشعرية
أو قد لا يستخدمها إطلاقا, وهو أحيانا يشطب الوزن والقافية تماما,
كما في نص (الى جبران), وهو لا يستخدم نظام الشطرين إطلاقا في المجموعة,
لكنه أطلق صفة (الشعر المنثور) على المجموعة كلها, مما يؤكد أن مفهوم الشعر
المنثور لديه يعني (ما يشبه قصيدة النثر) ويعني التحرر من نظام القافية
ونظام الشطرين المعروف في الشعر العربي,
لكنه يستخدم أوزانا مختلفة في القصيدة الواحدة.
ثانيا: إن مقدمة المجموعة كانت تعني بالشعر المنثور من الناحية
النظرية (قصيدة النثر), رغم انه يسميه (الشعر الحر) انطلاقا من ترجمة المصطلحين
الانجليزي والفرنسي. ولهذا فهو لم يخطئ في الترجمة,
ومما يؤكد ذلك انه يقدم قصيدة النثر (الشعر المنثور) عند والت ويتمان بصفتها
النموذج (أطلقه من قيود العروض كالأوزان والأبحر العرفية), ومعنى هذا انه
يقصد مواصفات قصيدة النثر ولا يقصد غيرها من أنواع أخرى من الناحية النظرية.
ثالثا: تكمن الاشكالية في الفارق بين نصوص مجموعته التي تجمع
بين قصيدة النثر بكل مواصفاتها كما في نص (إلى جبران) حيث التحرر تماما
من الوزن والقافية وبين نصوص أخرى تشتمل على بعض الأوزان السطرية
وبعض القوافي المتناثرة. فهو بالتأكيد لم يكتب شعرا عموديا, في هذه المجموعة.
والخلاصة هي أن مجموعة هتاف الأودية مزيج من قصيدة النثر ونوع آخر
ربما مهد لقصيدة النثر, والمرجعية هنا هي الشعر الأمريكي والانجليزي والفرنسي.
أما المصطلح (الشعر المنثور) فقد أخذه من مواصفات قصيدة النثر عند ويتمان,
لكنه تجاهل مصطلح (الشعر الحر) في التسمية التي اعتمدها وان لم يتجاهله
في المقدمة النظرية (الشعر الحر المنثور). أي انه وازن بين المواصفات وبين
المصطلح الحرفي فاختار المواصفات مرجعية له, أي (الشعر المنثور),
ليكون مطابقا - نظريا- مع مصطلح قصيدة النثر اللاحق, دون قصدية.
رابعا: طبق أمين الريحاني في نص (الى جبران) القصدية من النوع
المستعمل, وطبق القصدية في المقدمة النظرية, فهو يقصد قصيدة النثر بالذات
لكنه سماها (الشعر المنثور), لأن مواصفاته هي التحرر من الوزن والقافية.
خامسا: انطلاقا من الجدل المتأخر بعد قرن كامل حول (عدم القصدية)
لدى كتاب قصيدة النثر في النصف الأول من القرن العشرين ورغم وضوح
القصدية من خلال المواصفات, لا التسمية, نقول: ما كتب في النصف
الأول من القرن العشرين يعبر عن قصيدة النثر (في مرحلتها الأولى).
كما لدى أمين الريحاني, اضافة لشعرنة النثر المكثف لدى جبران خليل جبران,
ويقدر بأن جبران هو الأب الروحي الحقيقي لعملية التجسير بين النثر والشعر,
ثم جاء آخرون ليكتبوا ما يسمى بالنثر الشعري (مصطفى صادق الرافعي
وأحمد حسن الزيان والمنفلوطي) مثلا. وبتقديري أن القصدية ليست نية الإعلان,
بل هي ما يسمى (المتحقق النصي). (3)
إذن قصيدة النثر جنس أدبي مستقل بذاته أم أنه بإمكاننا أن ندرجه تحت إطار الشعر او النثر ؟
إن المتأمل للدرس التقدي العربي الحديث حول الشعر سيلاحظ
الفوضى السائدة بسبب عدم تدقيق المصطلح وبسبب من عدم توحيد ثانيا.
إن الباحث الذي يتناول قصيدة النثر في الشعر العربي الحديث ليجد من أولى
أولوياته توضيح هذا المصطلح توضيحا شافيا حتى يتسنى له فرز المتن
الذي سيتعامل معه، وحتى يساهم ، ما استطاع في تجلية هذه الضبابية
المفاهيمية التي ما انفكت حدودها تتسع.(4)
إذن فإن المشكل المثار حول هذا الجنس الأدبي هو التسمية وليس
لدى المناهضين له اعتراض سوى التسمية ويبدو أن مصطلح (قصيدة النثر)
أطلق ، عربيا ، بنوع من الطمأنينة "رغبة في تسمية الأشياء بأسمائها للخروج
من البلبلة والخلاص من تشويا الحقائق كما كانت نية المتحمسين له ،
في حين أنا مصطلح يفتح باب الجدل على مصراعيه بدل أن يفلقا
فإضافة لكونه يستدعي تعميق النظر في مفهوم النثر وهي مهمة
ليست سهلة أبدا فإنه يجعل من البحث عن علائق النص الجديد
بالأشكال الشعرية السابقة عليه أو المحايثة له ضروريا كما يستعجل
تحديد الأسس الشكلية والبنائية لقصيدة النثر التي
مهما ادعت أنها ضد الأشكال كلها فإن لها شكلا .(5)
كل تلك الزوبعة المثارة حوله عن كونه اتباع للغرب وتقليد
لا معنى لها والرفض القاطع لها ومحاربتها دون معنى فالإبداع
لا يرتبط بمسمى إن أردنا صدقا فقصيدة النثر أو كيفما شئنا تسميتها
سرت في عروق الأدب العربي وصارت جزء لا يمكن إنكاره منه و من
هنا نقول أين تكمن قوة هذا النوع من الأدب؟
تكمن قوته برأيي _في سلاسته وبساطته و قدرته على التعبير
عما يجول في خاطر مبدع وهي سهل ممتنع بكل ما للكلمة من
معنى وهذا أسقط الكثيرين في شركها فهي بعمقها الغير ظاهر لمن
يراها بسطحيتها تغرق من يلج فيها دون تدبر لها وفهم لماهيتها
ومن هنا نعود للسؤال الذي طرح نفسه بداية " ما هي قصيدة النثر؟"
وكما كانت بدايتنا نقول إن الكثافة الدلالية والمعنى الخفي
وعمق النص هو عنوان قصيدة النثر و قدرة الأديب تتمثل في
قدرته على فرض سطوته على النص وبالتالي جذب قارئه لينصهر
فيها ويرى فيها انعكاس لذاته للجزء الذي يوجه المبدع كلماته له
خصيصا أما هيمنة الغموض والإغراق في الرمزية حتى أنك لما
تقرأ قصيدة ما ترى بأن كاتبها لا يفهم ما كتب فيها هذا هو المأخذ
على قصيدة النثر وهذا ما يدعو القارئ للتفكر والتأويل للنص
الذي أمامه ليصل لما يقصد إليه كاتبها
منقول للافادة