المجامع البوذية الأولى
رغم إلحاح أتباعه عليه إلا أن بوذا توفي من غير أن يُزكي شخصاً يتولى
شؤونهم، وصَأهم بالعمل على طلب الخلاص. كانت التعاليم الشفوية أهم تركة
خلفها بوذا وراءه، أحس أتباعُه بالفراغ الذي تركه رحيله، فقرروا أن
ينتظموا في طائفة واحدة حتى يحافظوا على هذه التركة. جرياً على هذا المبدأ
عقد أتباع البوذية الأوائل عدة اجتماعات لبحث المسائل المختلفة التي
تتناول عقيدتهم. يعتبر المؤرخون أن أربع مجامع فقط يمكن اعتبارها أساسية.
تم عقد أول مجمعٍ بعد وفاة بوذا بفترة قليلة في "راجغير" (الهند) عام
477 ق.م. قام الحاضرون بتلاوة التعاليم الشفوية التي تركها بوذا، واتفقوا
فيما بينهم على مضمونها، كما ناقشوا المنهج الأمثل في الحياة الواجب
اتباعه عند اختيار حياة الرَّهبنة.
بعد حوالي قرن من التاريخ الأول عقد المجمع الثاني في "فايسالي" (ولاية
بيهار-الهند)، كان هدفه توضيح وجهات نظر اتجاه بعض التصرفات التي تطبع
الحياة اليومية على غرار استعمال النقود، استهلاك الخمر، بالإضافة إلى بعض
الأمور وكذا البدع الجديدة التي استحدثتها إحدى طوائف الرهبان. اختتمت
الجلسات بعدا أن تم الإجماع على منافاة هذه التصرفات لروح البوذية. يعتقِد
البعض أنه وأثناء عقد هذا المجمع ظهرت ولأول مرة علامات الانقسام بين
الأتباع ذوي توجهات مختلفة. تُشِير المصادر التاريخية التي دُوِنت في تلك
الفترة إلى خلاف نَجم بين أعضاء المجلس الكبير (ماهاسانغيكا) ومجلس
القدماء (ستارفيرا)، بعد أن أبدى الأخيرين مواقف متشددة وصارمة اتجاه
التصرفات والبدع الجديدة. لم يكن لهذه الخلافات تبِعات فورية في حينها،
إلا أنه وبعد مرور سبعٍ وثلاثين عاماً منذ ذلك التاريخ، أخذت الخلافات
تتفاقم، كانت المواضيع محل الخلاف متنوعة، وتشمل الجوانب المتعلقة بتنظيم
الأديرة، تفسير بعض المسائل العقائدية، كيفية معاملة جمهور الناس بصفتهم
لا ينتمون إلى مجتمع الرهبان وغيرها من المسائل. في مثل هذه الظروف تم عقد
مجمع آخر، ونظرا لاتساع الهُوة بين الأطراف المتنازعة تقرر الإعلان وبصفة
رسمية عن انقسام الطائفة البوذية للمرة الأولى في تاريخها.
انشطر أتباع البوذية بعد المجمع الثاني إلى جماعات وطوائف عِدة (تعرف
بالمدارس التقليدية، وبلغ عددها ثمانية عشر مدرسة)، اختلفت كل واحدة مع
الأخرى في المسائل العقائدية، الفلسفية، والتنظيمية وغير ذلك. اندثرت أغلب
المدارس التقليدية الأولى ولم يتبق منها اليوم إلا واحدة فقط، وتعرف باسم
"تيرافادا" وهو المذهب السائد في الهند وسائر البلدان المُطلة على خليج
البنغال.
كان المجمع الثالث للبوذية حدثا استثنائيا في تاريخ البوذية، فقد تم
عقده في "باتاليبورتا" (عاصمة إقليم بيهار في الهند) في القرن الثالث قبل
الميلاد، وتحت إشراف الملك أشوكا، أعظم ملوك دولة "ماوريا"، والتي شملت
مساحتها كل بلاد الهند وباكستان تقريبا (هندوستان). من أهم النتائج التي
ترتبت عنه، طرد العديد من أشباه الرُهبان والمنافقين الذين التحقوا
بالـ"سانغا" (الاسم الذي يطلق على مجتمع الرُهبان) بعد أن قدَم الملك
أشوكا دعمه لهم. تم التشديد على محاربة البدع الجديدة المتحدثة، وإقصاء كل
الذين كانوا وراءها. أثناء هذا المجمع تم الانتهاء من كتابة النصوص
المعروفة باسم "تيربيتاكا" أو "السَّلات الثلاث" (راجع النصوص المقدسة)،
كما عرفت العقيدة الأساسية (والمقصود هنا الدارما أو التعاليم) والقواعد
السلوكية التي يقوم عليها مُجتمع الرهبان، بعض التعديلات بعد أن انضافت
إليها مجموعة من المفاهيم الفلسفية، عرفت باسم "أبيردارما" (abhidharma).
سمح هذا المجمع للبوذية ولأول مرة أن تعرف طريها إلى الانتشار خارج رقعتها
الأصلية، عندما قرر المجتمعون إرسال مجموعة من الأشخاص إلى البلدان
المجاورة بهدف الدعوة إلى الدين الجديد.
عقد مجمع رابع تحت أشراف الملك "كانيشكا"، في جَلندار (ولاية جامو-كاشمير)
عام 100 بعد الميلاد. كان الهدف منه التقريب بين أهم تيارين في البوذية،
"تيرافادا" و"ماهايانا"، إلا أن اتباع المذهب الأول رفضوا لاحقا الاعتراف
بما جاء فيه.