إذا كان الأدب العربي قد انقسم إلى فنين كبيرين هما الشعر والنثر فإن لفظة فن لم تكن مستخدمة في تراثنا القديم على النحو الدلالي المقصود بها الآن.
بل إن لفظة صناعة هي اللفظة الشائعة عندهم، انظر أسماء الكتب التي تعالج فنا من فنون اللغة والأدب مثل كتاب سر صناعة الإعراب لابن جني، بل إن أبا هلال العسكري حين أسمى كتابه: "سر الصناعتين" كان يقصد بذلك صناعة الشعر وصناعة النثر.
إذن لقد كان هناك ـ دائما ـ مصطلحان لفهم الإبداع الأدبي في التراث العربي القديم، الأول: الطبع وبالتالي يوصف بعض الشعراء بأنهم مطبوعون وقد كانت هذه الكلمة تعني في الأصل "شعر الفطرة"، ذلك الشعر الذي يعبرعن حالة قائله فيؤثر في نفوسنا بسهولته وقرب مأخذه، ولم يكن الأدباء أنصار مذهب الأوائل هم وحدهم الذين يفضلون الطبع ـ أو يقدمونه ـ على الصنعة، بل كان معهم ـ أو ربما قبلهم ـ المتكلمون واللغويون. ولكل فريق أسبابه في هذا التفضيل، فاللغويون لا تعنيهم جودة الشعر، بل تمثيله لما نسميه الآن "اللغة الطبيعية" وهذا ما يخرج به من كلام الأصمعي عن زهير والحطيئة ومن سلك طريقهما.
والمتكلمون يعنيهم الصدق. وآية الصدق أن يصدر الكلام عن قائله بغير تعمل، والشيء إذا صدر من أهله وبدأ أصله وانتسب إلى ذويه سلم في نفسه وبانت فخامته وشوهد أثر الاستحقاق فيه "كما يقول الباقلاني".
وبوسعنا أن نتخذ من شعر البحتري نموذجا للمطبوعين من الشعراء وأن نتخذ من أبي تمام نموذجا للصنعة، ويفسر الآمدي الفرق بينهما بقوله:".. لأن البحتري أعرابي الشعر، مطبوع وعلى مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشعر المعروف، وكان يتجنب التعقيد ومستكره الألفاظ ووحشي الكلام.. ولأن أبا تمام شديد التكلف، صاحب صنعة، ومستكره الألفاظ والمعاني، وشعره لا يشبه أشعار الأوائل، ولا على طريقتهم، لما فيه من الاستعارات البعيدة اتلمعاني المولدة.
وفي المقابل كان المصطلح الآخر هو الصنعة وهو "المذهب الذي نجده في أقدم نماذج الشعر العربي، إذ كان أصحابه يخضعون لطائفة من الرسوم والتقاليد في صُنعه، وهي تقاليد ورسوم تجعل الإنسان يشعر بأن أدبنا العربي منذ أقدم العصور أدب تقليدي، إذ تتضح فيه عناصر التقليد اتضاحا تاما، غير أن هذه العناصر لا تطغى على عناصر التحول والتطور فيه".
وربما يأتي كلام الجاحظ عن زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما من أقرب صور مدرسة الصنعة في الشعر العربي القديم حيث يقول:"زهير بن أبي سلمى ، والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر وكذلك كل من جّود في جميع شعره، ووقف عند كل بيت قاله وأعاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة وكان يقال: لولا أن الشعر قد استفرغ مجهودهم حتى أدخلهم في باب التكلف وأصحاب الصنعة ومن يلتمس قهر الكلام واغتصاب الألفاظ لذهبوا مذهب المطبوعين الذين تأتيهم المعاني سهوا رهوا وتنثال عليهم الألفاظ انثيالا.. ومن تكسب بشعره والتمس صلات الأشراف والقادة، وجوائز الملوك والسادة، في قصائد السماطين، وبالطوال التي تنشد يوم الحفل، لم يجد بدا من صنيع زهير والحطيئة وأشباههما، فإذا قالوا في غير ذلك أخذوا عفو الكلام وتركوا المجهود".
وإذا كنا قرنا بين المصطلحين السابقين أعني الطبع والصنعة وبين الشعر العربي من خلال أسماء الشعراء فإن مذهب الطبع والصنعة ومراحله المتتابعة في الشعر هي نفسها التي عايشها الفن في النثر العربي ومراحله المتعاقبة حيث "بدأت صناعة النثر في العصر الجاهلي بصورة فنية لا تأنق فيها ولا تعقيد تبعا لحياة العرب البسيطة التي لم تكن تعتمد على تصعيب في الأداء ولا على تنميق". ثم يدور الزمن دورة وإذا الإسلام يفتح صفحة مشرقة في تاريخ العرب فاتسعت الخطابة اتساعا شديدا وأخذ يظهر نوع جديد من النثر وهو الكتابة الفنية.
ومازال هذا النوع يتطور في العصر الإسلامي حتى وصل إلى عبدالحميد الكاتب فأعطاه صورته النهائية، وهي صورة اندمجت في صورة المذهب القديم: مذهب الصنعة والصانعين ويدور الزمن دورة أخرى، فإذا بنا نصل إلى العصر العباسي فنلتقي بابن المقفع وسهل بن هارون والجاحظ وأضرابهم ممن كانوا يعنون بالكتابات الطويلة، أو بعبارة أخرى بالرسائل والكتب الأدبية.
وقد حافظت هذه الجماعة على إطار النثر الذي تسلمته من عبدالحميد الكاتب، فلم تخرج به إلى مذهب جديد، بل عاشت في إطار مذهب الصنعة القديم، على الرغم من البون الشاسع بين ثقافتها وثقافة أصحاب المذهب في العصور السابقة