أنواع الاجْتهاد وقواعده الإسلاميَّة:
8- من المعلوم أنَّ التشريعَ وليدُ الحاجة، ومَقيس عليها، فما قامَ تشريعٌ في أمةٍ ولا نُشِرَ فيها قانونٌ، إلا وقد قامَ في البلادِ قبْلَها حاجةٌ تدعو إليهما، فيأتي التشريعُ عندئذ ويُصاغُ القانون على قَدْرِ تلك الحاجةِ.
غير أنَّ الحاجة الداعية نفسَها قدْ يطرأُ عليها بعضُ الطوارئ ما بيْن عشيةٍ وضحاها، فتتنوع وقائعُها وتختلف فيها الملاحظاتُ ما بيْن واقعة وأخرى، بصورة يصبحُ معها النصُّ القانوني - المصوغ من قَبْلُ - على قَدْرِ الحاجة منهما بالنسبة لما وقَعَ فيما بعْد من أنواعٍ في تلك الحاجة، أو غير وافٍ ولا كافٍ بالنسبة لما جَدَّ من ملاحظاتٍ في تلك الوقائعِ الجديدة.
9- وأنَّ الأممَ في القديم والحديث ما استطاعتْ، ولن تستطيعَ النجاةَ في شرائعها وقوانينها من هاتين الحالتين؛ الإبهام في النصوص، أو عدم الكفاية فيها بالنسبة لما سيجدُّ من وقائعَ، ولقد جاء في الموسوعة الفَرنسيَّة الكبرى للعلوم والآداب والفنون[5]:
إنَّ القوانينَ التي تضعُ الأحْكَامَ العامة لا تستطيعُ في الحقيقة أن تتصوَّرَ جميعَ الفرضيَّات الخاصة قبْلَ وقوعِها، وأنَّ القوانينَ قد تكون:
• أحيانًا ساكتة تجاه هذه الفرضيَّات.
• وأحيانًا لا تتناولها إلا بصورة غير كافيةٍ.
• وأحيانًا قد يكونُ النصُّ غامضًا أو مُبْهمًا.
ويجب في جميع هذه الأحوالِ أنْ يُجْبرَ النقصُ بالبيان والتفسير.
10- ثُمَّ تتابعُ الموسوعة الفرنسيَّة وتقول:
"إن قواعدَ البيان والتفسير ترتبطُ بالفلسفة أكثر منها بالحقوق الخاصة، وعندما أُرِيدَ وضْعُ القانون المدني الفَرنسي كان من المنتظرِ في بادئ الأمرِ أنْ تُجْمَعَ هذه القواعد في فصْلٍ من مَطْلعِ القانون، غيْر أنَّ هذا الفصْل قد حُذِفَ من القانون لَدَى وضْع صيغته النهائيَّة".
ثم تابعتِ الموسوعة الفرنسيَّة فقالت: "وهذا ما جَعَلَ القاضي يفسِّرُ القانونَ حينَ الاقتضاء تَبَعًا لمواهبه المسلكيَّة تحت مراقبة مَحْكمة التمييز"، ثُمَّ لم تلبث الموسوعة أن أعلنتْ مخاوفها من هذا التفسير الذي يقوم به القضاة - بما فيهم قضاة محكمة التمييز - دونَ أنْ يعتمدوا فيه على قاعدة، أو أنْ يقيسوه بمعيارٍ، فقالت: ومِن هنا يُفْهَمُ كم هي خطرة هذه السلطة من التفسير؛ ولذلك كانَ الفقهاءُ الرومان يقولون: "إنَّ أحسنَ القوانين هو القانون الذي يترك أقلَّ ما يمكنُ من الحرية لأهواء القضاة".
11- فماذا كانَ وضْعُ النصوصِ الأصليَّة أولاً في الشريعة الإسلاميَّة من كتاب وسنَّة، تجاه هذه الحاجات الإنسانيَّة المتجددة وغير المتناهية؟
ثُمَّ ماذا كان وضْعُ رجالِ الفقه في الإسلام أمامَ هذه الضرورة الملحَّة على وجوبِ الأخْذِ بالاجتهاد، وأمامَ تلك الأخْطَار المحْدِقة بالقُضاة والمجتهدين؟