مناقضة ابن قتيبة في قوله في الأشربة
قال في كتابه: فإن قال قائل: إن المنكر هو الشربة المسكرة، أكذبه النظر. لأن القدح الأخير إنما أسكر بالأول، وكذلك اللقمة الأخيرة إنما أشبعت بالأولى. ومن قال: السكر حرام، فإنما ذلك مجازٌ من القول، وإنما يريد ما يكون منه السكر حرام. وكذلك التخمة حرام.وهذا الشاهد الذي استشهد به في تحريمه "قليل ما أسكره كثيره" وتشبيهه ذلك بالتخمة شاهد عليه لا شاهد له؛ لأن الناس مجمعون أن قليل الطعام الذي تكون منه التخمة حلال، وكثيره حرام. وكذلك ينبغي أن يكون قليل النبيذ الذي يسكر كثيره حلالاً، وكثيره حرام، وأن الشربة الآخرة المسكرة هي المحرمة. ومثل الأربعة الأقداح التي يسكر منها القدح الرابع، مثل أربعة رجال اجتمعوا على رجل، فشجه أحدهم موضحة، ثم شجه الثاني منقلة، ثم شجه الثالث مأمومة، ثم أقبل الرابع فأجهز عليه. فلا نقول: إن الأول هو قاتله، ولا الثاني، ولا الثالث، وإنما قتله الرابع الذي أجهز عليه. وعليه القود.
وذكر ابن قتيبة في كتابه، بعد أن ذكر اختلاف الناس في النبيذ، وما أدلى به كل قومٍ من الحجة. فقال: وأعدل القول عندي أن تحريم الخمر بالكتاب وتحريم النبيذ بالسنة، وكراهية ما أفتر وأخدر من الأشربة تأديب.ثم زعم في هذا الباب بعينه أن الخمر نوعان: فنوع منهما مجتمع على تحريمه، وهو خمر العنب من غير أن تمسه نار، لا يحل منه لا قليل ولا كثير. ونوع آخر مختلف فيه، وهو نبيذ الزبيب إذا اشتد، ونبيذ التمر إذا صلب، وهو يسمى السكر، ولا يسمى السكر إلا نبيذ التمر خاصةً.وقال بعض الناس: ليس نبيذ التمر خمراً. ويحتجون بقول عمر: ما انتزع بالماء فهو حلال، وما انتزع بغير الماء فهو حرام.
وقال ابن قتيبة: وقال آخرون: هو خمر حرام كله. وهذا هو القول عندي، لأن تحريم الخمر نزل وجمهور الناس مختلفة، وكلها يقع عليها هذا الاسم في ذلك الوقت.وذكر أن أبا موسى قال: خمر المدينة من البسر والتمر، وخمر أهل فارس من العنب، وخمر أهل اليمن من البتع، وهو نبيذ العسل. وخمر الحبشة السكركة وهي من الذرة، وخمرة التمر يقال له: البتع والفضيخ.
وذكر أن عمر قال: الخمر من خمسة أشياء: من البر، والشعير، والتمر، والزبيب، والعسل.والخمر ما خامر العقل. ولأهل اليمن أيضاً شراب من الشعير، يقال له المزر.فزعم ها هنا ابن قتيبة أن هذه الأشربة كلها خمر. وقال: هذا هو القول وقد تقدم له في صدر الكتاب أن النبيذ لا يسمى نبيذاً حتى يشتد ويسكر كثيره، كما أن عصير العنب لا يسمى خمراً حتى يشتد، وأن صدر هذه الأمة وأئمة الدين لم يختلفوا في شيء اختلافهم في النبيذ، وكيفيته.ثم قال فيما حكم به بين الفريقين: أما الذين يذهبون إلى تحريمه كله ولم يفرقوا بين الخمر وبين نبيذ التمر، وبين ما طبخ وبين ما نقع، فإنهم غلوا في القول جداً، ونحلوا قوماً من أصحاب رسول الله ) البدريين، وقوماً من خيار التابعين، وأئمة من السلف المتقدمين شرب الخمر. زينوا ذلك بأن قالوا: شربوها على التأويل. وغلطوا في ذلك، فأتهموا القوم، ولم يتهموا نظرهم، ونحلوهم الخطأ، وبرءوا أنفسهم منه. فعجبت منه، كيف يعيب هذا المذهب ثم يتقلده، ويطعن على قائله ثم يقول به. إلا أني نظرت في كتابه فرأيته قد طال جداً، فأحسبه أنسي في آخره ما ذهب إليه في أوله.
والقول الأول من قوله هو المذهب الصحيح الذي تأنس إليه القلوب، وتقبله العقول، لا قوله الآخر الذي غلط فيه.