المذهب الشافعي
مؤسس هذا المذهب و إمامه: أبوعبدالله محمد بن إدريس الشافعي القرشي المطلبي. و لد هذا الإمام في (غزة) سنة (150 هـ)، و هو العام الذي مات فيه أبوحنيفة –رحمه الله-، توفي والد الشافعي و هو صغير، فحملته أمه إلى مكة حيث نشأ فيها، و قد حفظ القرآن في صباه، ثم خرج إلى هذيل بالبادية فحفظ كثيرا من شعر الهذليين، و عاد إلى مكة فلزم مسلم بن خالد الزنجي، و هو شيخ الحرم و مفتيه، فأخذ عنه الفقه حتى أذن له بالإفتاء، ثم رحل إلى المدينة، و تتلمذ للإمام مالك –رحمه الله-، و قد اضر للعمل، نظرا لفقره، فتولى عملا باليمن، بيد أنه اتهم و هو باليمن مع غيره بالتآمر ضد الدولة العباسية، و حمل إلى بغداد، و كاد يقتل لولا شهادة محمد بن الحسن له، و موقف حاجب الرشيد الفضل بن الربيع الذي دافع عنه، فأطلق الرشيد سراحه، و أمر بوصله. و كانت هذه المحنة مصدر خير للشافعي؛ إذ توثقت صلته بعدها بالإمام محمد بن الحسن، وأخذ عنه فقه العراق و جرت له مع هذا الإمام مناقشات و مناظرات، ثم عاد الشافعي إلى مكة و لكنه ما لبث أن قدم العراق سنة(195 هـ)، و أخذ يملي كتبه التي كتبها في مذهبه القديم، ومن اهمها كتاب (الحجة) و (الرسالة).
و في سنة (199 هـ) سافر إل مصر، و فيها ظهرت مواهب الشافعي و مقدرته الكلامية، فأملى على تلاميذه المصريين كتبه في مذهبه الجديد الذي كتبه أو رواه تلاميذه في مصر عنه.
و لم يزل الشافعي بمصر بعد سفره إليها حتى توفي بها سنة (204 هـ).
أصول المذهب الشافعي
يختلف الشافعي عن أئمة المذاهب في أن كتب كتبه بنفسه و أملاها على تلاميذه، و كان إملائه في بعض الأحيان من ذاكرته، و كما يختلف عنهم أيضا في أنه نشر مذهبه بما قام به من الرحلات، و لم يعرف هذا لغيره من الأئمة، فتلاميذهم هم الذين دونوا آرائهم، ونشروا مذاهبهم.
وأصول المذهب الشافعي مدونة في (الرسالة، و الأم)، واختلاف الحديث، ففي الأم يقول: و العلم طبقات شتى: الأولى: الكتاب و السنة إذا ثبتت السنة، ثم الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، و الثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- و لا نعلم له مخالفا منه، و الرابعة: اختلاف أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- في ذلك، و الخامسة: القياس على بعض الطبقات، و لا يصار إلى شيء غير الكتاب و السنة و هما موجودان، و إنما يؤخذ العلم من أعلى".
فأصول الأحكام لدى الشافعي من هذا النص خمسة، مرتبة على خمس مراتب كل مرتبة مقدمة على ما بعدها:
المرتبة الأولى: الكتاب و السنة إذا ثبتت، فالسنة مع الكتاب في مرتبة واحدة فهي في كثير من الأحوال مبينة لهن مفصلة لمجمله.
و المرتبة الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب و لا سنة، و المراد بالإجماع إجماع الفقهاء.
و أما المرتبة الثالثة: فقول بعض أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- رأيا من غير أن يعرف أن أحدا خالفه.
و المرتبة الرابعة: اختلاف أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في المسألة، فيؤخذ من قول بعضهم ما هو أقرب إلى الكتاب و السنة.
و المرتبة الخامسة: القياس على أمر عرف حكمه بواحد من المراتب الأربعة السابقة. و قد دافع الشافعي في (رسالته) و في اختلاف الحديث دفاعا مجيدا عن العمل بخبر الواحد الصحيح، كما تحدث في الرسالة عن القياس حديثا لم يسبق به، و كان موقفه منه موقفا وسطا لم يتشدد فيه تشدد مالك، و لم يتوسع فيه توسع أبي حنيفة.
و قد أنكر الشافعي (الاستحسان)، و هاجم القائلين به هجوما عنيفا، و هو يعني بالاستحسان مجرد الرأي من غير أن يكون مستندا إلى أصل شرعي.
و الحقيقة أن ما أنكره الشافعي ليس هو الاستحسان الي توسع فيه الأحناف و أخذ به المالكية، و إنما يرجع إلى الأخذ بأقوى الدليلين أو ترجيح بعض الأدلة على بعض، و هو بهذا المعنى يدخل في الأدلة التي يأخذ بها الشافعي.
كذلك أنكر الشافعي الاحتجاج بعمل أهل المدينة، ورد المصالح المرسلة، واستغنى عنها بما سماه (المناسبة)، أي أن يكون هناك مشابهة بين ما يسمى بالمصلحة المرسلة) و المصلحة المعتبرة) بإجماع أو نص، و من ثم تكون لديه وجها من وجوه القياس فلا تكون أصلا قائما بذاته.
و لا يحتج الشافعي بأقوال الصحابة، لأنها تحتمل أن تكون عن اجتهاد يقبل الخطأ. و الشافعي بمنهجه الأصولي كان وسطا بين الحنفية و المالكية، فهو يتسع في الاستدلال بالحديث أكثر ما فعل أبوحنيفة و مالك، كما أنه حد من الرأي و القياس و ضيق دائرة الأخذ بها، و من ثم عدل بعض أهل الرأي عن مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي، كذلك كان أهل الحديث أميل إلى هذا الإمام، و لا غرو إن كان من أنصاره الإمام أحمد بن حنبل و إسحاق بن راهويه و غيرهما من كبار المحدثين.
و بهذا المنهج الأصولي قرب الشافعي بين مدرستي (الرأي) و (الحديث) أكثر مما فعل سواه من الفقهاء، و هو إلى هذا أفحم الذين هاجموا السنة وفند مزاعمهم ورد كيدهم إلى نحورهم، فضلا عن سيقه في تدوين الأصول، و لذا يعد هذا الإمام (مجمد القرن الثالث).
تلاميذ الشافعي
للشافعي تلاميذ كثر منهم العراقي و الحجازي و المصري، نكتفي هنا بذكر أشهرهم و هم:
البويطي : و هو يعقوب يوسف بن يحي البويطي، نسبة إلى (بويط) قرية في صعيد مصر، و هو من أكبر تلاميذ الشافعي، و هو خليفته في حلقته من بعده، و كان الشافعي يعتمد عليه في الفتيا.
و كان من العباد القوامين الصوامين، و قد سجن في بغداد في محنة القول بخلق القرآن، و كان هو في السجن إذا كان يوم الجمعة من كل أسبوع غسل ثيابه واغتسل و تطيب فإذا سمع النداء إلى صلاة الجمعة مشى إلى باب السجن، فيقول له السجان: إلى أين؟، فيقول: أجيب داعي الله، فيقول له: ارجع رحمك الله، فيقول البويطي: اللهم إني أجبت داعيك فمنعوني. و قد مات في سجنه سنة (264 هـ).
المزني : هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحي، ولد سنة (175 هـ)، و هو مصري طلب العلم منذ صغره، و لما جاء الشافعي إلى مصر اتصل به و تفقه عليه، حتى قال الشافعي فيه: (المزني ناصر مذهبي).و هو يعد فقيها مجتهدا مطلقا، لما عرف له من اختيارات خالف فيها إمامه، و قد ألف كتبا كثيرة من أهمها: المختصر الصغير) الذي نشر به المذهب، و الذي كان يقرأ أو يعول عليه في الشرح و الفتوى، و كتاب الجامع الكبير، و الجامع الصغير، و المنثور، و المسائل المعتبرة، توفي سنة (264 هـ).
الربيع المرادي : هو الربيع بن سليمان بن عبد الجبار، ولد بالجيزة بمصر سنة (174 هـ)، صاحب الشافعي و راوي كتبه، كان ثقة ثبتا، روى عنه أبو داود و النسائي وابن ماجه و الترمذي و الطحاوي.
و الربيع المرادي هو الذي روى كتب الإمام و عن طريقه وصلتنا (الرسالة) و (الم) و غيرهما، فالدارسون و الباحثون في المذهب الشافي مدينون للربيع الذي طالت صحبته للشافعي و أحبه الشافعي حتى قال له: لو أمكنني أن أطعمك العلم لأطعمتك، توفي سنة (270 هـ).
حرملة : هو أبو حفص حرملة بن عبدالله التجيبي المصري، ولد سنة (166 هـ) و روى عن الشافعي، و أكثر ما رواه عن ابن وهب، روى عنه مسلم و ابن ماجه و أثنى عليه ابن معين و غيره.
من تصانيفه : المبسوط و المختصر، توفي سنة (243 هـ).
الكرابيسي : هو أبو علي الحسين بن علي بن زيد الفقيه البغدادي، تفقه أولا على مذهب أهل الرأي، و لما قدم الشافعي بغداد سمع منه و تفقه عليه فانتقل إلى مذهبه.
قال الزعفراني: و كان الكرابيسي من متكلمي أهل السنة، أستاذا في علم الكلام كما هو أستاذ في الحديث و الفقه، و كان أحفظ أصحاب الشافعي لمذهبه، توفي سنة (245 أو 248 هـ).
مواطن انتشار المذهب الشافعي
سبق أن ذكرنا أن الشافعي نشر مذهبه بنفسه‘ فهو برحلاته و تنقلاته بين الحجاز و العراق و مصر، نشر آرائه و فقهه في هذه الأقطار، و قام تلاميذه، من بعده بنشر مذهبه في بلاد أخرى، و تعرض هذا المذهب عبر التاريخ كما تعرض غيره من المذاهب للمد و الجزر في العالم الإسلامي، و هو الآن يسود في مصر، و أندنوسيا و ماليزيا، و جنوب شرق آسيا برجه عام، كما أن له في اليمن وجودا يكاد يضارع وجود المذهب الزيدي، و له وجود أيضا في العراق و الشام، و بعض أقطار الجزيرة العربية كعمان، و لكن ليس لو وجود يذكر في المغرب العربي.
كتب المذهب الشافعي
الإمام الشافعي هو الإمام البذي دون آراءه و فقهه بنفسه، و لم يفعل هذا إمام سواه من أئمة المذاهب، و من ثم كانت كتب الشافعي هي المصدر الأول للمذهب، و على رأس هذه الكتب:
"كتاب الأم":
و هذا الكتاب موسوعة فقهية اشتملت على كل أبواب الفقه المعروفة من عبادات و معاملات، بالإضافة إلى عدة كتب ناقش فيها الشافعي بعض فقهاء العراق و غيرهم في قضايا أصولية و فقهية.
و لهذه الموسوعة خصائص منهجية و أسلوبية تنفرد بها، فهي تتميز بجزالة اللفظ و الجواب، و الجمع بين الفروع و الأصول، و لهذا يمثل كتاب (الأم) فقه الشافعي أصدق تمثيل، و يعبر عن عمق البحث الفقهي و شموله لدى هذا الإمام أوفى تعبير.
و بعد الشافعي كتب تلاميذه، و فقهاء المذهب على مدة عدة قرون مؤلفات كثيرة منها:
مختصر المزني : لأبي إبراهيم إسماعيل بن يحي المزني (ت: 264 هـ) و المزني كما أشرنا من قبل اتصل بالشافعي و تفقه عليه، و قال فيه إمامه (بأنه ناصر مذهبي)، و كان مجتهدا مطلقا، و هو أول من صنف في مذهب الشافعي، و يعد كتابه المختصر من أهم مصنفاته، و قد قال في مقدمته ... قال أبو إبراهيم إسماعيل بن يحي المزني –رحمه الله- : اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، و من معنى قوله، لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده و تقليد غيره، لينظر فيه لدينه و يحتاط فيه لنفسه و بالله التوفيق.
المهذب : لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي (ت: 476 هـ) و قد ذكر فيه أصول مذهب الشافعي بأدلتها، و ما تفرع على أصوله في المسائل المشكلة بعللها.
و قد شرح (المهذب) الإمام النووي في كتابه (المجموع)، و هو موسوعة في الفقه المقارن، و سترد الإشارة إليه في الحديث عن كتب هذا الفقه.
التنبيه في فروع الشافعية : و هو من تأليف صاحب المهذب، و هذا الكتاب أحد الكتب الخمسة المشهورة و المتداولة بين المتقدمين من الشافعية و هي: مختصر المزني، و المهذب، و التنبيه، والوسيط، و الوجيز.
و على التنبيه شروح و مختصرات تربى على المائة ، كما قال صاحب (كشف الظنون).
نهاية المطلب في دراية المذهب : لإمام الحرمين عبدالملك بن عبدالله الجويني (ت: 478 هـ)، و هو موسوعة في فقه الشافعي لم يصنف في المذهب مثله كما قال السبكي، و يتعرض الجويني في كتابه إلى آراء الفقهاء من المذاهب الأخرى، و لذا يعد كتاب نهاية المطلب من كتب (الفقه المقارن)، كما يعد من (أمهات) كتب المذهب الشافعي.
البسيط في فروع الفقه : لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي (ت: 505 هـ) و هو كالمختصر لنهاية المطلب لشيخه إمام الحرمين.
الوسيط في فروه المذهب : لغزالي، و هو مختصر من البسيط، و قد عمد فيه أبو حامد إلى حذف الأقوال الضعيفة، و التفريعات الشاذة.
الوجيز في فقه الإمام الشافعي : للغزالي أيضا، و هو مأخوذ من البسيط و الوسيط مع بعض الزيادات، و من ثم ألف كتاب آخر سماه (الخلاصة). و فيه قال الشاعر:
هذب المهذب حبر أحسن الله خلاصه
ببسيط و وسيط و وجيز و خلاصه
المحرر : لأبي القاسم عبدالكريم بن محمد الرافعي (ت: 623 هـ) و هو عمدة في تحقيق المذهب، و هو مقتبس من كتاب الوجيز للغزالي، و قد اشتغل به العلماء شرحا واختصارا و تدريسا، و من شروحه كتاب "كشف الدرر في شرح المحرر" لشهاب الدين أحمد بن يوسف السندي الحصكفي (ت: 895 هـ).
فتح العزيز : في شرح الوجيز لصاحب المحرر، و قد شرح فيه الرافعي كتاب (الوجيز) للإمام الغزالي، و وضح فقه المسائل كما كشف عما انغلق من الألفاظ و دق من المعاني.
للإمام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي (ت: 676 هـ) عدة مؤلفات في المذهب لها أهميتها و قيمتها، و إن جاءت اختصارا أو شرحا لكتب أخرى، و لكن للنووي مع هذا إضافاته و تحقيقاته العلمية النفيسة، و من هذه المؤلفات: الروضة في الفروع، و قد اختصره النووي من كتاب (فتح العزيز) للرافعي، و كتاب منهاج الطالبين للنووي، و هو اختصار لكتاب (المحرر) الذي ألفه الرافعي.
و على منهاج الطالبين عدة شروح منها: تحفة المحتاج لشرح المنهاج لابن حجر الهيثمي (ت: 974 هـ)، و كتاب (مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج) للشربيني الخطيب (ت: 977 هـ)، و نهاية المحتاج شرح المنهاج لابن حمزة الرملي (ت: 1004 هـ).
و من المتون المعتبرة في المذهب الشافعي:
"متن الغاية و التقريب" المشهور ب(متن أبي شجاع): لأحمد بن الحسين بن أحمد أبي شجاع شهاب الدين أبي الطيب الأصفهاني (ت: 593 هـ) فهذا المتن من خير كتب المذهب شكلا و مضمونا، فهو على صغر حجمه قد اشتمل على جميع أبواب الفقه و معظم أحكامه و مسائله في العبادات و المعاملات و غيرها، مع سهولة العبارة، و جمال اللفظ و حسن التركيب، إلى جانب ما امتاز به من تقسيمات موضوعية تسهل على المتفقه في دين الله إدراكه واستحضاره.و لما امتاز به هذا المتن أقبل عليه طلاب العلم و العلماء قديما و حديثا بالحفظ و الدرس و الشرح، و من العلماء الذين شرحوا متن "الغاية و التقريب" الشربيني الخطيب صاحب (مغني المحتاج)، في كتابه "الإقلاع في حل ألفاظ أبي شجاع"، و تقي الدين الحسيني الدمشقي في كتابه "كفاية الأخيار" و أبو الفضل ولي الدين البصير في كتابه "النهاية".
مصطلحات الشافعية
الأظهر: أي من قولين أو أقوال للإمام الشافعي، قوي الخلاف فيهما أو فيها و مقابله (ظاهر) لقوة مدرك كل.
المشهور: أي من قولين: أو أقوال للشافعي لم يقو الخلاف فيهما أو فيها و مقابله (غريب) لضعف مدركه.
الأصح: أي من وجهين أو أوجه، و لكن لم يقو الخلاف بين الأصحاب و مقابله ضعيف؛ لفساد مدركه.
المذهب: مدلوله أن المفتى به هو ما عبر عنه بالمذهب.
النص: أي نص الشافعي. و مقابله وجه ضعيف أو مخرج.
الجديد: هو ما قاله الشافعي في مصر تصنيفا أو إفتاء.
الشيخان: هما الرافعي و النووي.