نتفاضة الريف سنتي 1958 و1959 تكريس لنهج الأمير في الكرامة والتحرير
تحالفت
قوى الاستعمار ولجأت إلى استعمال الطائرات والغازات السامة... وتواطأ معها
السلطان وغيره من مسؤولي الزوايا والأعيان، وتمكن الأوروبيون من إجهاض
تجربة تحررية قادها الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في عشرينيات القرن
20. بعد مكوث الأمير أزيد من 20 سنة في منفاه بجزيرة لاريونيون، اعتقد
الفرنسيون والإسبان وغيرهم ممن وصفوا أنفسهم بالزعماء الوطنيين، أن الرجل
قد هرم وشاخ وأنه بات غير قادر على فهم التطورات والتعامل مع المستجدات
المحلية والمغاربية والدولية، لكن الأمير ما أن وطئت قدميه أرض مصر وتأكد
من محدودية العمل الذي يقوم به المكتب الذي أسسته بعض الزعامات الحزبية
المغاربية بمصر، حتى عاد إلى قيادة حرب التحرير بتأسيسه لجنة تحرير "المغرب
العربي" وتأسيسه جيش تحرير "المغرب العربي" الذي تشكل من المحاربين
القدامى في صفوف المقاومة الريفية وبعض الشباب المغاربي المتعطش لمواجهة
المستعمر بقوة السلاح، فما انتزع بالقوة لا يرد إلا بالقوة، لإرغامه (أي
المحتل) على الانسحاب التام وتحقيق استقلال كامل وشامل لكافة البلدان
المستعمرة في الشمال الإفريقي. في 02 أكتوبر 1955 سيبدأ هذا الجيش أولى
عملياته الفدائية بتوجيه ضربات موجعة للجيوش الفرنسية، دفعت الفرنسيين إلى
إعادة ترتيب أوراقهم درءا للخطر الذي بات يشكله جيش التحرير الخطابي على
مصالحهم، بدأ القصر وجل الحزبيين يقلقون على مستقبلهم وسارعوا إلى التفاوض
مع الفرنسيين في صالونات باريس وعلى موائد إيكس ليبان وأوهموا الشعب على
أنهم جادين في المطالبة بالاستقلال... في البداية استعمل القصر وزعماء
الأحزاب جيش التحرير كورقة ضغط في مفاوضاتهم مع فرنسا لتحقيق انسحاب بأقل
الشروط، لكن هذا الجيش سرعان ما تحول إلى كابوس يقض مضاجعهم وبدأوا يتوجسون
منه خصوصا وهم يدركون أنه مؤطر من قبل الأمير الخطابي، بدأ زعماء حزب
الاستقلال يشكلون عصابات أطلقوا عليها، إمعانا في التضليل والتغليط، خلايا
جيش التحرير وهي في الحقيقة ميليشيات تخريبية زرعت الرعب والفوضى والإرهاب
بين السكان والمقاومين وعملت على تصفية العديد من كوادر جيش التحرير
الحقيقي وعلى رأسهم الشهيد عباس لمساعدي الذي اغتيل في يونيو 1956، ومحاربة
كل الذين ارتبطوا بتجربة الأمير عبر اختطافهم(كما حصل للعقيد حدو أقشيش)
وتعذيبهم والزج بهم في غياهب السجون والمعتقلات السرية التي أنشئوها لهذا
الغرض
في العديد من النقط (جنان بريشة بتطوان، عزبة بدار بن قريش، عزبة بقبيلة
بني أحمد السراق، عزبة بترجيست، المعهد الديني بالحسيمة، مقر الإدارة
بأجدير وبأربعاء تاوريرت، دار بقبيلة أولاد ستوت بالناظور، كهف بقبيلة
إمضارسن، واللائحة طويلة)، وتمخض عن كل ذلك مآسي كثيرة و"احتقلال" بدل
استقلال حقيقي. أمام هذه الجرائم الفضيعة وما نتج عنها من مصائب وويلات،
سيجد عامة الناس أنفسهم بعد استقلال 1956 يعيشون أوضاعا مزرية، وبدأوا
ينتفضون وعمت الاحتجاجات جل جهات المغرب، وانتظمت بشكل أفضل في الريف
لتجارب الريفيين في الصراع ضد قوى الاحتلال والمخزن ولارتباطهم بالنهج
التحرري الذي سطره الأمير الخطابي ووضوح مطالبهم واقتناعهم بها
تاريخيا
كانت العلاقة بين الريف وباقي جهات المغرب جد ضعيفة، فرغم تواجد ممثلين
للسلطان بالريف ومساهمة الريفيين أحيانا في جمع الضرائب لفائدة السلاطين
ومشاركتهم في صد هجمات الطامعين في الأراضي والخيرات فإن الريف لم يسبق له
أن اندمج كليا مع المغرب بل ظل دوما يعيش مستقلا قادرا على تدبير أموره
وتسيير شؤونه. وعوض أن ينتبه الحكام إلى هذه الخصوصية التي ميزت الريف
تاريخيا عن باقي الجهات، عمدوا بعد استقلال 1956 إلى دمجه قسرا، وراحوا
يفرضون عليه مخططاتهم السياسية والاقتصادية والثقافية، وعينوا داخل مختلف
الإدارات موظفين من خارج الريف تعامل جلهم بقساوة مع أهل الريف، ودون
مراعاة لعادات وتقاليد المنطقة ولا إلى أساليب الريفيين في التدبير
والتنظيم والقضاء... أصر الحاكمون على التخلي عن تنمية الريف وتهميشه
وتفقيره وقطع أرزاق الناس عبر إغلاق الحدود مع الجزائر حيث حرمت مئات
العائلات من عائدات الهجرة... تزايد شعور الناس بالغبن والجور والظلم من
استقلال ضحوا من أجله بالغالي والنفيس، ووجدوا أنفسهم مضطرين إلى الاحتجاج
بعدما اقتنعوا بأن الجور الذي مورس عليهم من قبل المستعمر زادت حدته مع
المسيطرين الجدد على الحكم والسلطة، وأن المنجل الذي كان مسلطا على رقابهم
لم يتغير منه بعد استقلال 1956 إلا قبضته التي أصبحت مغربية. بعد أن تيقن
الثوار من عجز الحكام على التجاوب مع مقترحاتهم وتجاهل اللجنة التي كلفت من
قبل القصر لفتح مباحثات معهم لمطالبهم، رفعوا راية النضال من أجل إعادة
الاعتبار لكرامتهم وماضيهم وإسهاماتهم، وكما ابتدع الريفيون بقيادة الأمير
محمد بن عبد الكريم الخطابي أسلوبا جديدا في العمل العسكري ضد الجيوش
الغازية( حرب العصابات) في عشرينيات القرن 20، سيبتدعون بقيادة محمد الحاج
سلام أمزيان أسلوبا جديدا في النضال المدني( العصيان). اندلعت انتفاضة
الريف في أكتوبر 1958 ودامت أزيد من 4 أشهر(انتهت في فبراير1959)، وفي 7
أكتوبر 1958 أصدرت قيادتها الميثاق الثوري الذي تضمن مطالب المنتفضين، وعكس
ما روج له "المسؤولون" آنذاك عن أهداف الانتفاضة، فإن مطالب الثوار كانت
عادلة ومشروعة فلم يطالبوا بالانفصال أو بحكم ذاتي حتى، رغم المشروعية
التاريخية لهذا المطلب الأخير، بل طالبوا بإقامة إدارة جهوية تسمح للريفيين
بإدارة شؤونهم بأنفسهم، إضافة إلى مطالب أخرى لخصت في 18 مطلبا وهي حسب
الترتيب الوارد في دراسة أنجزها الدكتور دايفيد هارت كما يلي
جلاء جميع القوات الأجنبية عن المغرب
تشكيل حكومة شعبية ذات قاعدة عريضة
حل الأحزاب السياسية وتكوين حكومة وحدة وطنية
اختيار الموظفين المدنيين من السكان المحليين
إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين
عودة محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى المغرب
ضمان عدم الانتقام من المنتفضين
اختيار قضاة أكفاء
إعادة هيكلة وزارة العدل
تقديم المجرمين للعدالة
إسناد وظيفة مهمة لريفي في الحكومة
توسيع برنامج عملية الحرث لتشمل الريف
تخفيض الضرائب في المغرب كله وخاصة بالريف
خلق برنامج طموح ضد البطالة
إحداث منح دراسية للطلبة الريفيين
تسريع تعريب التربية في كل المغرب
بناء مزيد من المدارس في القرى
فتح ثانوية أو مدرسة عليا في الحسيمة
كان
نهج الانتفاضة سلميا واختارت القيادة أسلوب الحوار والتفاوض مع الحكام،
وظلت تناشد المنتفضين بعدم التعرض لممتلكات السلطة والمواطنين وتطالبهم
باستبعاد العنف، ولم يستعملوه إلا لحماية أرواحهم وأعراضهم من بطش قوات
الجيش التي فرضت طوقا على المنطقة لمحاصرة المنتفضين والتنكيل بهم وزرع
الرعب وسط المدنيين والنساء والشيوخ... لقد كان تدخل الجيش وحشيا وحدث ما
لا يمكن تصوره من المآسي والفواجع والأهوال، ما حدث يقول الأمير الخطابي
يثير عواطف" الجمادات" وبالأحرى البشر، قنبلت الطائرات التي كان يقودها
طيارون فرنسيون الأسواق والتجمعات السكانية، وأحرق الجيش المحاصيل الفلاحية
وخرب المنازل وغيرها من الممتلكات، اغتصب النساء وبقر بطون الحوامل وقتل
المئات وخلف ألاف الجرحى والمعطوبين واعتقل الآلاف وأبعد المئات (يذكر
الأمير الخطابي في إحدى رسائله أن عدد المعتقلين إبان انتفاضة الريف بلغ
8420 بينهم 110 امرأة، أطلق سراح 5431 بينهم 95 امرأة، وحكم على 323 فيما
ظل الآخرون أي 2664 دون محاكمة ولا إطلاق سراح، وتم إبعاد 542 مواطنا إلى
كل من إسبانيا وإيطاليا وألمانيا والجزائر... ويضيف الخطابي أن جل الضحايا
كانوا من المساهمين في حرب التحرير من الاستعمار والاستعباد
اليوم
ونحن نبتعد عن زمن انتفاضة الآباء والأجداد بما يزيد عن 47 سنة، نحاول
البحث عن الأهداف الحقيقية التي كان يتوخى مرتكبو تلك الجرائم والمجازر
تحقيقها، فنجد أنهم تعمدوا ضرب الريف وقتل أبنائه
للقضاء على النهج
التحرري الذي كرسه الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، عبر إسكات صوته وصوت
أنصاره وضرب مقومات جيش التحرير، في محاولة للهيمنة على الريف وتطويعه
وإخضاعه بالقوة وإسكات صوته إلى الأبد
للقضاء على الأصوات المتجذرة
التواقة إلى استقلال كامل وشامل يستفيد منه الجميع، وليس استقلالا أعرجا
يستفيد من ثماره ثلة من الوصوليين ومحبي الكراسي والمناصب والامتيازات
لاستبعاد
الريفيين من مناصب المسؤولية المدنية والسياسية، وتحويل الريفيين إلى
كائنات لا تتقن إلا لغة التشكي والتباكي، كائنات لا تقدر على الفعل
والإبداع
لطمس مقومات الإنسان الريفي وقيمه وحضارته وتزوير هويته
وتهميش ثقافته وقطع لسانه. لإقصاء الريف من فرص التنمية الشاملة ومحاصرته
وتهجير أبنائه...