معركة وادي المخازن
معركة وادي المخازن (4 أغسطس 1578 ) بالقربمن مدينة القصر الكبير بالمغرب.
عرف التاريخ الإنساني عددا من المعاركالفاصلة التي كانت نقاط تحول تاريخية نتيجة للآثار الإستراتيجية البعيدة التيتركتها تلك المعارك، حيث كانت بمثابة القسمات على وجه التاريخ، وحفرت وقائعها فضلاعن أسمائها في الذاكرة الإنسانية.
ومن هذه المعارك معركة بلاط الشهداء أولابواتيه التي كانت تحولا في مسار الفتوح الإسلامية بأوربا، وتراجع العثمانيين أمامأسوار فيينا، ومعركة وادي المخازن بين الدولة السعدية في المغرب والعثمانيين منجانب، والبرتغال والأسبان وفلول المتطوعين المسيحيين الأوربيين من جانبآخر.
كان دافع البرتغاليين لخوض هذه المعركة هو استرداد شواطئ شمال أفريقياوسحب البساط تدريجيا من تحت أقدام الإسلام في تلك المناطق وإرجاعها إلى حظيرةالمسيحية، وإحكام السيطرة على طرق التجارة، خاصة مدخل البحر المتوسط من خلالالسيطرة على مضيق جبل طارق، محاولين في ذلك استلهام تجربة حروب الاسترداد التيخاضتها أسبانيا ضد الوجود الإسلامي بها.
المتوكل.. على الأسبانوالبرتغاليينكانت الدولة السعدية -التي تعود لمحمد النفس الزكية أحد أئمةآل البيت النبوي- هي التي تسيطر على مراكش (المغرب)، وكان قيامها سنة (923هـ= 1517م) على أساس مجاهدة البرتغاليين، واستطاعت هذه الأسرة أن تحرر الكثير من شواطئالمغرب المطلة على المحيط الأطلنطي -والتي احتلها الأسبان في عدة حملات- حيثاستطاعت دخول مراكش سنة (931هـ= 1525م) ثم فاس في (961هـ= 1554م) وكان ذلك بدايةقيام تلك الدولة التي استمرت حتى عام (1011هـ=1603م)
وعندما توفي عبد اللهالغالب السعدي حاكم الدولة السعدية تولى من بعده ابنه محمد المتوكل الحكم سنة (981هـ=1574م) وعرف عنه القسوة وإتيان المنكرات، فانقلب عليه عماه عبد المالك وأحمدواستنجدا بالعثمانيين -الذين كانوا موجودين بالجزائر- فقدم لهما العثمانيونالمساعدات واستطاعا الانتصار على المتوكل في معركتين سنة (983هـ=1576م) واستطاع عبدالمالك أن يدخل فاس عاصمة الدولة السعدية وأن يأخذ البيعة لنفسه، وأن يشرع في تأسيسجيش قوي ضم العرب والبربر وعناصر تركية وأندلسية.
ولم تؤد خسارة المتوكلأمام عميه عبد المالك وأحمد إلى أن يرضى بالأمر الواقع فرحل إلى الشواطئ البرتغاليةواستنجد بالملك البرتغالي دون سباستيان ليساعده في استرداد ملكه مقابل أن يمنحهالشواطئ المغربية على المحيط الأطلسي.
واستطاعت المخابرات العثمانية فيالجزائر أن ترصد هذه الاتصالات بين المتوكل والبرتغاليين، وبعث حسن باشا أمير أمراءالجزائر برسالة مهمة إلى السلطان العثماني بهذا الشأن، وكان العثمانيون في إستانبولعلى دراية بما يجري في أوربا فقد كان لديها معلومات عن اتصالات يجريها بابا روماودوق فرنسا منذ عدة أشهر بهدف جمع جنود وإعداد سفن وتحميلها بمقاتلين لمساعدةالبرتغال في غزوها للشاطئ المغربي، ورصدت المخابرات العثمانية الاتصالات بين ملكالبرتغال سباستيان وخاله ملك أسبانيا فيليب الثاني ولكنها لم تستطع أن تقف علىحقيقة الاتفاق الذي جرى بينهما، لكن المعلومات التي رصدتها أكدت أن ملك أسبانيا جمعحوالي عشرة آلاف جندي لمساعدة البرتغال في تأديبه ملك فاس عبد المالكالسعدي.
أما الدولة السعدية فقد استطاعت سفنها أن تلقي القبض على سفارة كانقد أرسلها المتوكل إلى البرتغال تطالبهم بالتدخل لمساعدته في استرداد ملكه مقابلمنحهم الشواطئ المغربية على المحيط الأطلسي، ولذا بدأ السعديون يأخذون أهبتهم للحربالقادمة من حيث الاستعدادات الحربية وحشد الجنود والاتصال بالعثمانيين الموجودين فيالجزائر للحصول على دعمهم في الحرب القادمة ضد البرتغاليينوالأسبان.
سباستيان: استرداد استردادكانت الهوس الديني مسيطراعلى سباستيان وكان يرغب في أن يخوض حرب استرداد مسيحية أخرى في سواحل الشمالالأفريقي، ورأى أن تكون حربا كبيرة لا مجرد غارة خاطفة، ولذا بدأ مشاورات مع عدد منملوك وأمراء أوربا وعلى رأسهم خاله فيليب الثاني الذي سمح للمتطوعين الأسبانبالتدفق على الجيش البرتغالي، وأمده بقوات من جيشه وسفن لنقل القوات إلى الشواطئالمغربية، وشارك بثلث نفقات الحملة شريطة الاكتفاء باحتلال ميناء العرائش علىالمحيط الأطلسي وعدم التوغل في الأراضي المغربية وألا تستمر الحرب أكثر منعام.
تدفقت جموع المتطوعين على الجيش البرتغالي من إيطاليا وألمانيا وغيرهامن الدول الأوربية، وجمع سباستيان حوالي 18 ألف مقاتل، وكان بالجيش البرتغاليالكثير من المدافع والخيالة الذين كانوا عماد الحرب في تلك الفترة من التاريخ. واختلف في المجموع الكلي لجيش سباستيان وجموع الأسبان والمتطوعين المسيحيين الذينتدفقوا على هذا الجيش؛ إذ رفع البعض عددهم إلى حوالي 125 ألف مقاتل، وفي تقديراتأخرى 80 ألفا، بينما يقول المدققون إنه كان يزيد على 40 ألفا.
وقد ظنالبرتغاليون أنهم ذاهبون إلى نزهة على الشواطئ المغربية؛ حيث أخذوا الأمر باستخفافشديد؛ فقد كانوا واثقين من انتصارهم السهل، حتى إن الصلبان كانت مُعدة لتعليقها علىالمساجد المغربية الكبيرة في فاس ومراكش، بل وضعت تصميمات لتحويل قبلة جامعالقرويين الشهير إلى مذبح كنسي، وكانت بعض النساء البرتغاليات من الطبقة الراقيةيرغبن في مصاحبة الجيش لمشاهدة المعركة، وكان بعض البرتغاليين يرتدون الثيابالمزركشة المبهرة وكأنهم سيحضرون سباقا أو مهرجانا.
الإبحار والخطةوالمواجهةأبحرت السفن البرتغالية والأسبانية من ميناء لشبونة في (19 ربيعثان 986هـ= 24 يونيو 1578م) ورست على شاطئ ميناء أصيلة فاحتلته، وفوجئ سباستيان بأنعدد قوات المتوكل قليل جدا.
بنى السعديون خطتهم للمواجهة على إطالة الفترةالتي تبقاها قوات البرتغاليين في الشاطئ دون التوغل في الأراضي المغربية؛ حتى يتمكنالسعديون من تجميع قواتهم ودفعها إلى المعركة، ثم بدأ السعديون في محاولة إغراءالبرتغال بترك الشواطئ والتوغل في الأرض المغربية الصحراوية لإرهاقها وإبعادها عنمراكز تموينها على شاطئ المحيط.
نجحت خطة عبد المالك واستطاع أن يغري القواتالبرتغالية والأسبانية بالزحف داخل المغرب حتى سهل فسيح يسمى سهل القصر الكبير أوسهل وادي المخازن بالقرب من نهر لوكوس، وكان يوجد جسر وحيد على النهر للعبور إلىالوادي.
كانت خطة عبد المالك القتالية أن يجعل القوات البرتغالية تعبر الجسرإلى الوادي ثم تقوم القوات المغربية بنسف هذا الجسر لقطع طريق العودة علىالبرتغاليين، ومن ثمة يكون النهر في ظهرهم أثناء القتال؛ بحيث لا يجد الجنودالبرتغاليون غيره ليهرعوا إليه عند اشتداد القتال؛ وهو ما يعني أنهم سيغرقون بهنظرا لما يحملونه من حديد ودروع.
بدأ القتال وكان شديدا نظرا للحماسةالدينية التي كانت تسيطر على كلا الطرفين، وأصيب عبد المالك بمرض شديد أقعده فيالفراش، وقيل إن بعض الخدم وضع له سما. وقد زاد ضغط البرتغاليين والأسبان على بعضالقوات المغربية فاختلت صفوفها فما كان من عبد المالك إلا أن ركب فرسه وحث جنده علىالثبات، لكنه سقط فنقل إلى خيمته وأوصى إن توفاه الله تعالى أن يتم كتمان الخبر حتىالانتهاء من القتال حتى لا يؤثر ذلك في معنويات الجنود، وشاءت إرادة الله تعالى أنيُتوفى عبد المالك، وعمل رجال دولته بوصيته فكتموا الخبر.
استمر القتالحوالي أربع ساعات وثلث الساعة وفي أثنائها بدأت بشائر النصر تلوح في الأفق للمسلمينفحاول البرتغاليون الهروب من ميدان المعركة والعودة إلى الشاطئ لكنهم وجدوا أن جسروادي المخازن قد نُسف فألقى الجنود ومعهم سباستيان بأنفسهم في الماء فمات هو وكثيرمن جنوده غرقا، أما الباقون فقتلوا في ميدان المعركة أو أسروا، أما البقية التي نجتوركبت البحر فقد استطاع حاكم الجزائر حسن باشا وقائده الريس سنان أن يعترض سفنهموأن يأسر غالبيتهم؛ حيث أسر 500 شخص.
معركة الملوك الثلاثةلقيفي هذه المعركة ثلاثة ملوك حتفهم هم عبد المالك وسباستيان والمتوكل؛ ولذا عرفتبمعركة الملوك الثلاثة، وفقدت البرتغال في هذه الساعات ملكها وجيشها ورجال دولتها،ولم يبق من العائلة المالكة إلا شخص واحد، فاستغل فيليب الثاني ملك أسبانيا الفرصةوضم البرتغال إلى تاجه سنة (988هـ= 1580م)، وورث أحمد المنصور العرش السعدي في فاس،وأرسل سفارة إلى السلطان العثماني يعرض عليه فيها انضمام دولته لدولة الخلافةالعثمانية.