في هذه الأيام هلت علينا فتاوى وتحقيقات تُنشر في الصحف حول جواز دفع الرُشا من أجل الحصول على الحقوق بحجة أن هذه حال ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، وأن الإثم في هذه الحال يقع على المرتشي أو آخذ الرشوة• وهذا أمر خطير واستخدام لدور الدين في غير المطلوب منه وبخاصة في ظل واقع الحال الذي كان يتطلب من علماء الدين العمل على استخدام الدين في مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة كما يتضح مما يلي:
أولاً: واقع الحال لمشكلة الرُشا:
إن العالم كله مشغول الآن بما يُعرف بظاهرة الفساد التي تعني حسب تعريف البنك الدولي: >إساءة استعمال الوظيفة العامة لتحقيق نفع خاص<، ومثل لها ببعض الصور، منها قبول أو طلب رشوة لتسهيل عقد أو إجراء مناقصة أو عرض رُشا من جانب وكلاء لبعض الشركات للتغلب على المنافسين الآخرين، ونظراً لشيوع هذه الظاهرة عالمياً وما تحمله من آثار سيئة اقتصادية واجتماعية وأخلاقية اتجهت الجهود إلى محاربتها ومكافحتها بكل السبل ومنها إنشاء منظمة الشفافية الدولية ومقرها >برلين< في ألمانيا وهذه المنظمة تبذل جهوداً كبيرة في هذا المجال وخصوصاً بعد ظهور ما يسمى بالفساد الكبير الذي يعني به استغلال كبار المسؤولين ـ في الحكومات والشركات ـ لمناصبهم بطلب رُشا بمبالغ كبيرة جداً تمكنهم من الإفلات عن طريق أساليب شتى منها ظاهرة غسل الأموال، وفي سبيل مواجهة هذه المشكلة الخطيرة عقدت مؤتمرات محلية ودولية عدة، وانقسم الرأي حولها إلى اتجاهين: الاتجاه الأول: يرى ضرورة التصدي لها عن طريق مزيد من الرقابة والضبط المؤسسي وتشديد العقوبات عليها، إضافة إلى تأكيد النزاهة والشفافية والعمل على التمسك بالقيم الأخلاقية الفاضلة والعمل على مساندة هذا التمسك بكل السبل•
أما الاتجاه الثاني: فيرى أن الرشوة أصبحت ظاهرة لابد منها، وحسب تصويرهم تمثل الرشوة عملية تزييت للأمة لتسيير ماكينة الاقتصاد، وأن الفساد يساعد على تحسين مستوى معيشة موظفي الدولة وذوي الدخول المنخفضة، هذا فضلاً على أن تكاليف التصدي للفساد مرتفعة لدرجة تفوق سلبيات الفساد ذاته•
ثانياً: موقف الدين الإسلامي من الرُشو:
إن الموقف المبدئي والأصيل للدين الإسلامي من هذه الظاهرة هو التحريم القاطع، وتصنف الرشوة من ضمن الكبائر، فالله عز وجل نهى نهياً صريحاً بقوله: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) البقرة:188، فهذه الآية الكريمة بدأت بتصوير الرُشا على أنها أكل للمال بالباطل، ويلاحظ أن التعبير القرآني جاء: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) فهو نسب المال إلى الجميع مما يدل على أن هناك آثار سيئة للرشوة اقتصادياً واجتماعياً لا تقتصر على طرفيها >الراشي والمرتشي<، وإنما تمتد إلى اقتصاد المجتمع كله، ومن وجه آخر فإذا كان التعبير في صدر الآية ونهايتها يشمل الفساد الصغير الذي يتم بوساطة صغار الموظفين، فإن وسط الآية فيه إشارة إلى الفساد الكبير وهو رشوة الحكام أياً كان موقعهم، الأمر الذي يؤكد حرمة الرُشا أياً كانت صورتها، ويؤكد ذلك أيضاً ما ورد في الحديث الشريف حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: >لعن الله الراشي والمرتشي والرائش<، فالراشي دافع الرشوة، والمرتشي من يأخذها، والرائش الذي يتوسط بينهما لتسهيلها، ومن معروف أن اللعن لا يلحق إلا بالكبائر من الذنوب، وفي حديث آخر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: >الرشوة في الحكم كفر وبين الناس سحت<، وإذا كان في بعض الناس هذه الأيام يطلق على الرشوة عمولة أو هدية أو إكرامية، فلقد نبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن ما يأخذه الموظف من المتعاملين معه بسبب وظيفته هو رشوة أياً كانت تسميتها، وعبَّر عنه بالغلول أي الخيانة، ففي الحديث الشريف قاعدة عامة هي أن: >هدايا العمال غلول<•
ثالثاً: تحليل الفتاوى القائلة بجواز الرشوة: ونلخظ ذلك فيما يلي:
أ ـ بدأت هذه الفتاوى على حرمة الرشوة شرعاً وبأنها من الكبائر، وهذا أمر يتفق مع الأدلة الشرعية السابقة•
ب ـ بعد ذلك أجازت هذه الفتاوى دفع الرشوة بوساطة الشخص الذي له حق ولا يمكنه التوصل إليه إلا بدفع الرشوة واستدلت على ذلك بنصوص فقهية لـ>ابن عابدين والسيوطي، وابن نجيم<، وهي نصوص منزوعة من سياقها وواقعها، وبررت الفتاوى ذلك في حال الضرورة•
وفي هذا نرد عليهم بما يلي:
ـ القرآن والسنَّة يحرمان الرشوة على الإطلاق في نصوص قطعية الدلالة ليس فيها استثناء، فلا يجوز الخروج عن هذه الأدلة والاستدلال بأقوال الفقهاء أياً كانت مكانتهم•
ـ يلحظ في الحديث الشريف أنه بدأ بلعن الراشي قبل المرتشي، وهذا يدل على عظم مسؤولية الراشي وحتى لو قلنا: إنهم سواء في اللعن فلا يجوز استثناء الراشي وبقاء المرتشي آثماً•
ـ إن حال الضرورة التي استندت إليها الفتاوى غير متوافرة في الصورة المذكورة، فالضرورة المبيحة لارتكاب المحرَّم كما عليه إجماع علماء الأمة هي التي لو لم يرتكب فيها المحرَّم هلك الشخص أو عضو من أعضائه وليس مجرد الضيق والحرج•
ـ إن الخوف من ضياع الحق ما لم يدفع الرشوة يعني ضياع مال وربما لم يصل بالشخص إلى أن يصبح فقيراً، والقرآن الكريم في المقارنة بين خوف الفقر وارتكاب المحرَّم، طالب بتحمل خوف الفقر وعدم ارتكاب المحرم، ووعد الله سبحانه وتعالى من يلتزم بذلك بالغنى من فضله، فيقول سبحانه وتعالى: (يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عَيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم) التوبة:28، فهؤلاء المؤمنون في مكة سوف تنقطع عنهم أرباح التجارة التي كانوا يحصلون عليها من التعامل مع المشركين وهو أمر مؤكد، فطالبهم ربهم سبحانه وتعالى بمنع المشركين من دخول مكة، وإذا كانوا يخافون العيلة ـ الفقر ـ جراء ذلك فإن الله سبحانه وتعالى وعدهم إن امتثلوا لأمره أن يغنيهم من فضله•
جـ ـ إذا كانت الفتوى قصرت الإثم على المرتشي آخذ الرشوة في هذه الصورة، فلماذا لم يلتمسوا العذر له مثلما التمسوا العذر للراشي، لأنه كما يقول أصحاب الاتجاه المؤيد للرشوة إن الفساد >الرشوة< يساعد على تحسين مستوى موظفي الدولة ذوي الدخول المنخفضة، وخصوصاً أنه يعلم أن الرشي سيستفيد من موافقته ويكسب كثيراً، فلماذا لا يكون له نصيب من هذا الكسب؟!•
د ـ إذا كان العالم كله بمؤسساته الدولية وحكوماته يكافح الرشوة، وأن الجميع يرى أن السبيل الأمثل لهذه المكافحة هو العمل على تأكيد النزاهة والشفافية بما يعني العمل على شيوع القيم الأخلاقية الفاضلة والتمسك بها ومساندتها في التطبيق، وأن مفكري الاقتصاد كانوا يقولون: >إنه لا توجد صلة بين الدين والأخلاق وبين الاقتصاد<، ثم عادوا في ظل انتشار الممارسات غير الأخلاقية وقالوا: إن >إبعاد الأخلاق عن الاقتصاد قد أفقر علم الاقتصاد<، ولذا يوجد اتجاه قوي الآن في العالم فكراً وعلماً وعملاً بضرورة الربط بين الأخلاق والاقتصاد، ومن معروف أنه لا يمكن بناء نظام أخلاقي فاعل ما لم يلق عوناً من الدين، لذلك كله فإن واجب رجال الدين هو المساعدة على تأكيد الالتزام بالأخلاق لمواجهة ظاهرة الرُشا وليس البحث عن تبريرات لها بحجة الضرورة المزعومة•
هـ ـ على سبيل المثال في تقرير منظمة الشفافية الدولية المعنية بمكافحة الفساد الرُشا ـ تأتي دولة >سنغافورة< في مقدم الدول التي تقل فيها نسبة الفساد، وفي تصريح لسفير >سنغافورة< في >مصر< في إحدى الندوات ذكر أنه من أسباب ذلك أنهم يتيحون بسهولة لأي مواطن الإبلاغ عن أي حال رشوة يعرفها من خلال صناديق منتشرة في الشوارع وبوسائل سهلة، وهذا يعني أنهم يمارسون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه الفريضة الإسلامية الغائبة، فكان أولى بالمفتين أن ينصحوا الراشين بالإبلاغ عن المرتشين لا بدفع الرشوة•
و ـ يخشى من إصدار هذه الفتاوى الإيحاء بأن الدين الإسلامي يلون موقفه حسب الواقع ويبررون بالمخالفة لأصول الدين، والوقوف مع أنصار مبرري الفساد الذين رفض الجميع تبريراتهم في المؤتمرات التي عقدت دولياً حول الفساد•
فيا رجال الفتوى: العالم كله يتجه إلى الدين والأخلاق للمساعدة في علاج ظاهرة الفساد أو الرُشا، والدين الإسلامي فيه ما يساعد على ذلك ويسانده وواجبكم أن تعملوا على سيادة الأحكام والتوجيهات الإسلامية لا أن تبحثوا عن مبررات لمخالفتها•