ليوناردو دافنشي
يعتبر ليوناردو دافنشي أعظم رمز للطموح العلمي والمعرفي في عصر النهضة، إذ استطاع أن يربط القواعد والأسس الفنية بالعلمية ربطاً محكماً.ولد ليوناردو دا فنشي في بلدة فنشي عام ،1452 ثم انتقل مع عائلته عام 1469 إلى فلورنسا لتحصيل العلم والمعرفة. فدرس الأدب والرياضيات والموسيقى والتصوير واللغة اللاتينية، وقد لاحظ والده سرعة تعلمه الفائقة فأدخله محترف الفنان فيروكيو. وهناك تعرف على الفنان ساندرو بوتشيللي وبيرو دجينو، واكتسب الأسس النظرية الكافية لبلورة اهتمامه في تآلف الفن والعلم وكيفية تهيئة العلم بالوسائل التقنية المتطورة، ومسألة اقتراب فن التصوير والرسم من الرياضيات وعلم المنظور، واقتراب النحت من خلال دراسة نظرية التناسب، وفن العمارة من خلال دراسة مفهوم الجاذبية وثقل الجسم وحجمه. وهكذا باتت المعرفة العلمية من مرتكزات الفن. وأحس دا فنشي بهذه الخاصية الدقيقة بكل قوة ووضوح، وليس مصادفة أيضاً أن يلتحم الفن والعلم في عبقريته كوجه لظاهرة متفردة.
وقد شهدت سنوات دراسته "ما بين 1466 ـ 1476" ظهورمجموعة كاملة من الرسامين البارزين: بياتر ديللا فرنشيسكا ـ بوتشيللي ـ مونتاني وغيرهم. وقد أبدى دا فينشي اهتماماً كبيراً بالعلوم الطبيعية في فلورنسا بتأثير من كونها مركزاً كبيراً لصناعة النسيج وساعدت تجاربه وملاحظاته الشخصية على بلورة اهتماماته العلمية، وكذلك كتب سابقيه من علماء القرون الوسطى: الخزني "965 ـ 1039"، وفيتشللو في القرن الثالث عشر وغيرهما. واستفاد من فلسفة أفلاطون التي كان أكاديميو فلورنسا من أنصارها. وإضافة إلى موهبته في الرسم وإلى عبقريته الشمولية وحبه الكبير للعمل تنبغي الإشارة إلى أنه قرأ كثيراً وتردد على مكتبات فلورنسا واستعار الكتب من أصدقائه فتعرف علي مؤلفات أرسطو وكليوميديس وبطليموس واسترابون وارخميدس واقليدس وفيروفيوس وبليتوس، وعلى علماء الشرق منهم ثابت بن قرة. وتوجه في الثلاثين من عمره إلى ميلانو حيث تعرف إلى بوتشيللي ورسم صور كتابه "حول تناسب الله" في عام 1496.
إبداعات الأعمال الأولى
إن تعددية اهتمامات دا فنشي العلمية والفنية، جعلت عبقريته الفذة تتصف بالتكامل الإبداعي، وأدت في الوقت نفسه إلى توزع قدراته واهتماماته وتجلت في تركه إرثاً فنياً ضخماً من الرسوم والتخطيطات والجداريات والنصب المنحوتة واللوحات التاريخية والدينية غير المنتهية. فقد كان دا فنشي يبدأ العمل في عمل فني ما ويتوقف عن إنجازه النهائي لانشغاله بأبحاثه العلمية أو النظرية أو اختباراته التطبيعية في علم الميكانيكا والجيولوجيا وعلم النبات والطير.
فقد كان هذا الرجل رساما وفيلسوفا ونحاتا ومعماريا وموسيقيا، وبرع في علم الرياضيات والهندسة، والبصريات، والجيولوجيا، والفلك، وعلم الحيوان، والميكانيك، وعلم التشريح.
والفنان الشهير الذي عاش ما بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر توصل إلى الكثير من الاختراعات المدهشة مثل السيارات الطائرة والغواصات والدراجات والدبابات.
والمتتبع لمسيرة إبداع هذا العبقري الفذ يجد صعوبة في الإحاطة بها من جهة، وفي رسم سياق مراحلها بشكل دقيق من جهة أخرى لأسباب ذاتية وموضوعية أهمها: أن ليوناردو دا فنشي شخصية غنية نهمة للمعرفة تبحث عن الكمال والمنطق، لذلك كان دءوب البحث يعمل في أكثر من مجال في آن معاً، كما أنه عاش حياة عائلية غير مستقرة، وعايش ظروفاَ سياسية واجتماعية مضطربة ساهمت في تشتت أبحاثه وتوزعها بين العديد من المدن الإيطالية. تنقل بين فلورنسا وروما وميلانو والبندقية ولومبارديا وانتهت حياته في فرنسا بعد احتلال الجيوش الأجنبية لإيطاليا. لذلك نجد أن إرثه الفني الضخم موزع في مختلف متاحف العالم، والمنجز منه يتوزع بين مجموعة لوحات تشمل صور السيدة العذراء "العذراوات أو المادونات".
ـ البورتريه.
ـ الجدارية الدينية.
ـ اللوحات التاريخية.
منذ عام 1478 بدأت موهبة ليوناردو الفنان المتميز تبرز بوضوح. ففي عمله المبكر الذي أنجزه في محترف فروكيو "عمادة المسيح" "فلورنسا ـ جاليري أوفيزي" بدأت معالم أسلوبه تحفر مسارها في جيله ومن عاصره من كبار أعلام النهضة. فهو لم يكتف بالتعلم على كبار عصره بل سعى دائماً للتفوق عليهم والتميز عنهم. إن هذه اللوحة بالذات قد شغلت نقاد ومؤرخي الفن حتى اليوم لكونها حملت معالم شخصية ليوناردو الشاب وملامح وبصمات مدرسة فيروكيو. وكذلك الأمر بالنسبة للوحة "البشارة" "فلورنسا، جاليري أوفيزي". فهو في أعماله المبكرة وضع مجمل القواعد والمعايير التي تعلمها من فيروكيو وأضاف إليها مقدرته الشخصية في الحبكة المحكمة والمركزية للبناء العضوي العام للحدث في اللوحة الأولى، وفي قدرته على بناء حدث قائم على جزئين منفصلين بصرياً ومتصلين روحياً وخيالياً في لوحة "البشارة" حيث تبدو السيدة العذراء جالسة في الجزء الأيمن من اللوحة تنظر باتجاه الملاك الهابط إليها ليبشرها بالأمومة المقدسة في الجزء الأيسر من اللوحة. بينما تظهر الأشجار والطبيعة والعمارة والأزهار لتملأ المساحة والخلفية لهذا الحدث التاريخي المقدس.
فقد ركز ليوناردو جل همه علي تطبيق مبدأ علم المنظور والأبعاد الثلاثة، والتوليف بين العمارة والإنسان والطبيعة، بين الغيبي والواقعي، الخيال والعلم، الجمال النبيل في الوجوه ووضعياتها وحركة الأيدي والذوق الرفيع في مسألة التجانس الجمالي والروحي بين مجمل عناصر الحدث والمشهد التشكيلي ككل بما يتوافق والموضوع الديني المقدس: الملاك ـ العذراء ـ الطبيعة، ثالوث يمجد الخالق.
الضوء والظل
وهناك قدرته على توزيع المساحة والخطوط الهندسية والمعمارية وفق علم المنظور Perspectives بما يتلاءم ومفاهيم عصر النهضة في النسب والتوازن بين الخطوط الأفقية والعامودية ومبدأ المركزية في البناء التأليفي العام للحدث حيث يتوسط السيد المسيح تلامذته ويشكل نقطة المركز ومحور الموضوع على خلفية نافذة مفتوحة على السماء ومنظر طبيعي يضفي النور والحيوية على مناخ اللوحة.
إن التركيز على النافذة المفتوحة في الأعمال الفنية عند دا فنشي ارتبط ارتباطا وثيقاً بنظريته حول الضوء والظل، فهو في مجمل لوحاته لم يبد اهتمامه بتوزيع الضوء والظل بحد ذاتهما، بل بالدرجة الأولى كوسيلة لتشكيل أحجام الأشخاص وأجسامهم. وقد صور هذه الأجسام بكل ما تنطوي عليه من حقائق واقعية، فرضت علي الرسام دراسة علم التشريح وعلم النبات والرياضيات وعلم الفلك دراسة مفصلة ودقيقة. وقد قام دا فنشي بدراسة المياه السطحية وتيارات المحيطات وأمواج البحار والأنهار، وقضى ليالي بكاملها عند النافذة مراقباً أوجه القمر الفاتحة والقاتمة. وقد صور أوجه الربعين الأول والأخير للقمر لكي يدرس فيما بعد على حد قوله مراحل تكامل البدر. وهذا الواقع يدل على أن دا فنشي المراقب والمجرب لاينفصلان عن دا فنشي مكتشف القوانين العامة.
لقد جاءت لوحة "العذراء بين الصخور" تعبيراً ساطعاً عن نتائج دراسته لقوانين الطبيعة وظواهر توزيع الضوء والظل. وهذا ما تدل عليه السمات غير الاعتيادية والتعبيرية والسرية. وكذلك كون خطوط الصخور العجيبة التي تكون المغارة، لاتمرر تيار الضوء المستمر بل بعض أشعته التي تظهر في المركز وتترك أجزاءها المنفردة في الظل العميق، وتضيء الأجزاء الأخرى بالضوء الساطع المفاجئ، وبشكل خاص تتعرض مجموعة الأيدي للإضاءة الشديدة.
كتب دا فنشي: "بين الضوء الواقع والضوء المنعكس سيكون الجسم مظلماً غامقا " جداً بل وسيبدو أعمق مما هو في الواقع بسبب مقارنته مع الضوء الواقع الذي يحده". وكتب أيضاً:" إذا كان الشخص الذي ترسم موجوداً في بيت مظلم وتراه من الخارج فإن ظلاله تكون غبراء Sfumato ".
ففي لوحة "العذراء ليتا" لايقوم الرسام بتخفيف الظلال بل بتشديدها. وقد تكون التصوير المبني في الجو الضوئي المعقد وتأثيراته على أساس دراسة هذه الظواهر النظرية والعملية "التطبيقية".
كتب دا فنشي: "إن الضوء الواقع من النوافذ الصغيرة يخلق فرقاً كبيراً بين الضوء والظل". حيث لايشمل الأشخاص الموجودين في الغرفة فحسب بل يخلق تأثيراً أكبر في تصوير الطبيعة والجو.
وكتب كذلك في هذا الصدد: "يجب أن ترسم المناظر الطبيعية بحيث تكون الأشجار مضاءة إلى النصف ومظللة إلى النصف. ولكن من الأفضل رسمها عندما تغطي السحب الشمس، لأن الأشجار تكون مضاءة بنور السماء الشامل وظل الأرض الشامل. وكلما كان جزء من أجزائها أقرب من وسط الشجرة، كان هذا الجزء داكناً".
ويرى دا فنشي أن مهمة الرسام الأساسية تصوير السطح المستوي بحيث يجعل الجسم بارزاً ومختلفاً عن السطح، بمقدرته على توزيع الضوء والظل من الفاتح والقاتم.
وهكذا احتلت الطبيعة وجمالها مركز الصدارة لدى دا فنشي بوصفه "معلم المعلمين". وتجلت براعته في سعيه إلى تحويل الضوء إلى ظل تحولاً دقيقاً في تجنبه ظهور البقع الضوئية الزاهية والظلال الحادة، وفي تحقيقه الانسجام في الشكل والنعومة في الخطوط مما لم يعرفه رسامو القرن الخامس عشر. وقد تحقق ذلك لأول مرة في لوحة "العذراء في المغارة" التي أصبحت أول عمل فني مذبحي "أي يعلق في مذبح كنيسة" في عصر النهضة، يسودها الظلام الدامس. وقد انشغل دا فنشي ـ كرسام وباحث ـ بدراسة وتصوير مختلف آثار الضوء والظل المتغيرة نتيجة تغير المكان الذي ينبعث منه الضوء وطبيعة ذلك الضوء، وهذا ما يجد انعكاسا له في أعماله المبكرة ومنها لوحة "العذراء بينوا" حيث يلقي الضوء على الصورة العذراء من الجانب الأيسر "من حيث الأساس". وقد رسمت النافذة الصغيرة والجبال الواقعة خلفها باللون الأزرق الذي يعطي بقاعاً خضراء لأعضاء الجسم العارية. أما المكان الذي تتواجد فيه العذراء فمضاء بشكل ضعيف، وتتشكل الظلال الكثيفة الفريدة من نوعها بنتيجة تأثير الضوء المتغلغل عبر النافذة. وهذا ما تنص عليه مقولة: "إن الظل يشكله الضوء الكبير والضعيف"، ولذلك كان يلجأ في "العذراوات" و"البورتريهات" المنجزة في الداخل، إلى موتيف النافذة المفتوحة ليشيع الإحساس بالشاعرية والطبيعة والرومانسية، ولكي يتحكم بلعبة الضوء والظل التي لعبت دوراً أساسياً في رؤيته الجمالية للفن وعشقه للطبيعة التي تغلغل في أحضانها بحثاً عن السكينة والحكمة والمنطق. وكانت الطبيعة مدار تأملاته ودراساته في ظواهرها "حركة الشمس والقمر ولعبة الضوء والظل" وباطنها "التفاعلات الجيولوجية والصخور والمياه".
وقد وضع في مذكراته وفي كتابه "كتاب التصوير" مجمل آرائه ونظرياته حول تأثير الطبيعة على فن التصوير وعلاقة الضوء والظل.
البورتريه: سر الموناليزا
لم يجذب فنان في العالم "في العصور السابقة واليوم" البشرية، ولم يشغلها كما جذب ليوناردو دا فنشي في بورتريه "الجيوكندا" أو "الموناليزا" في متحف اللوفر ـ باريس. فهذه اللوحة شغلت مؤرخي الفن ونقاده على مدار حوالي قرنين من الزمن، لفك سر بسمتها وسحر نظرتها التي تتوجه للرائي من كل الجهات، فكيفما نظرت إليه ومن أي زاوية كانت يخامرك إحساس بأنها ترنو إليك بلطف ونبل وسكينة داخلية، لم يعرف فن البورتريه العالمي مثيلاً لها منذ نشأته على يد الفراعنه وسحر جاذبية طقوسهم. وقد ظهرت مئات الدراسات والأبحاث وتقارير المختبرات العلمية الحديثة التي تحاول فك طلسم هذا السحر ومعرفة أسلوب ليوناردو والطريقة التي اتبعها في رسم الجيوكندا كما تحافظ على جاذبيتها السرية منذ خمسة قرون. لسنا الآن بصدد الكلام عن الفرضيات والتكهنات حول طريقة رسم الجيوكندا، إذ قد تحتاج لدراسة مستقلة بدأتها، لكننا نود أن نشير إلى عظمة دا فنشي في فن البورتريه الذي وضعه في قمة هذا الفن دون منازع، فقد ترك مجموعة بورتريهات إضافة إلى الجيوكندا أهمها:
ـ بورتريه جينفرا بنشي
La Dame A la belette a l'hermine
وفي هذه الأعمال مفهوم للجمال الأنثوي عند ليوناردو دي فنشي ظهر في ملامح وقسمات وجوه الشخصيات التي صورها. فهو قد خلد مفهوماً جمالياً للمرأة كان سائداً في عصره، ومرادفاً لمفردات الجمال النهضوي الرفيع. الوجوه البيضاوية أو المثلثة أي التي تنتهي بنحافة عند الذقن، الجبين العريض، الأنف الحاد والبارز والطويل أحياناً بعض الشيء، الشفاه الرقيقة والبسمة الخفيفة، العيون المشروحة والمنتفخة الأجفان بعض الشيء دون أهداب أو كحل. الشعر الأملس مع فرق في الوسط والمنسدل على الأذنين والوجه، أو المشدود إلى الخلف برقة، بواسطة شريطة أو عقد أو منديل. الأكتاف الممتلئة والصدر العامر. وغالباً ما يركز ليوناردو على قبة الفستان المفتوحة بشكل هندسي مربع تظهر العنق وما يزينه من عقود، فيتناغم جمال الوجه والعنق والصدر مع رقة الأصابع في الأيدي المتكئة إلى الجذع أو المنشغلة بحركة ما تبرز جماليتها.
ولم يتوان ليوناردو لحظة عن إظهار قسمات الوجه كما هي، دون اللجوء إلى مفهوم الجمال المثالي الكلاسيكي الذي ساد النهضة الإيطالية. فهو يبرز جمال الروح والنفس، الجمال النبيل المفعم بالبساطة والرقة واللطف عند كل النساء اللواتي صورهن. بينما نراه يظهر عظام الوجنتين والأنف الكبير في بورتريه الموسيقي جافيريو. إن ما يميز بورتريهات دا فنشي هو التقاط الحالة الروحية والاجتماعية والإنسانية المميزة للشخص بشكل عام وليس في لحظة تصويره بالذات. فقد اهتم بدلالات الشخصية وإيحاءاتها الخاصة والعامة كموديل للجمال الصافي والنبيل، وكأنه كان يؤكد رأيه في مفهوم الجمال من خلال شخصياته التي رسمها بحب وشغف، وطبق عليها كل نظرياته العلمية والفنية لتبدو في جمالها الخاص نموذجاً للجمال المطلق.
إن شخصية دا فنشي الإبداعية متنوعة وشمولية، يخشى المتطرق إليها الإسهاب بالكلام عنها نظراً لاتساع وعمق مداها الإبداعي. فهو يحتاج إلى أكثر من قراءة إيقونجرافية وجمالية وتقنية لكي تستوفي شروط حضوره الإبداعي في مجمل الأنواع الفنية والمجالات العلمية. يكفي أن نقول إنه أول من فكر باختراع أجنحة للطيران، لأن الأرض كانت تضيق بأفكاره وأحلامه وطموحاته، ولكنه عاش في عصر مضطرب سياسياً وعسكرياً لذلك أصابت إبداعاته الانكسارات الدائمة والتشتت، وبقي عملاقاً خذله عصره، لكن نوره أضاء كل العصور اللاحقة في الفن والعلم.