مجالات الاجتهاد متعدّدة بتعدّد مجالات الحياة :
في ضوء هذا المفهوم، فإن للاجتهاد مجالات واسعة، وأفقاً رحباً، وبعداً وعمقاً، لا يحدّه مانع، ولا يُوقفه حاجز، ولذلك فإنَّ القضايا التي يمكن أن تكون موضوعاً للاِجتهاد، هي تلك التي تتصل بحياة الإنسان المسلم من الجوانب كافّة، فما من شأن من شؤون المجتمع الإسلامي، وما من مسألة تستقطب اهتمامات المسلمين، وما من مشكلة أو نازلة أو قضية تشغل الرأي العام الإسلامي، إلاّ وتدخل ضمن مجال الاجتهاد وفقاً للقواعد المشار إليها.
فليس صحيحاً، ولا هو من الشرع في شيء، أن تكون موضوعات الاِجتهاد وقضاياه محدودة الأفق، محصورة المجال، ضيّقة المساحة، فالدين للحياة على رحابتها، والشرع للإنسان في كل أحواله.
فما دام الاجتهاد المعاصر يقوم على المواءمة البصيرة بين النصوص الشرعية القطعية الثبوت، وبين متطلبات الأزمنة والأمكنة التي تُطبق فيها شريعةُ الإسلام، فإن موضوعات الاِجتهاد تشمل كلَّ ما يحقّق المصلحة العامة المؤكدة والممحَّصة للمجتمع الإسلامي التي تتسع لمجموع الضروريات الخمس وهي : حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وهي ضرورات، كما قال الشاطبي، مراعاةٌ في كل ملـة(22).
إنَّ الوظيفة الأساس للاجتهاد الذي يجدّد أوضاعنا ويصلح أحوالنا ويبني مجتمعاتنا، هي تيسيرُ حفظ مصالح العباد في كل الأحوال، وهذا مما يتفق مع جوهر الشريعة الإسلامية التي يقول ابن القيِّم عنها في عباراتٍ واضحة مشرقة قوية قاطعة : (إن الشريعة مبناها وأساسُها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلُّها، ومصالح كلُّها، وحكمةٌ كلُّها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدلُ اللَّه بين عباده، ورحمتُه بين خلقه، وظلُّه في أرضه، وحكمتُه الدّالةُ عليه وعلى صدق رسول اللَّه [، أتمَّ دلالة وأصدقها)(23).
ويمكن لنا أن نقول تأسيساً على ما قاله ابن القيّم، إن كل اجتهاد يُفضي إلى العدل والرحمة والمصلحة، ويَقضي على الجور والقسوة والمفسدة، هو اجتهادٌ يحقّق مقاصد الشرع الحنيف. وترتيباً على ذلك، فإنَّ كل قضية يُراد من الاجتهاد فيها تحقيقُ مقاصد الشريعة، هي ضرورةٌ من ضرورات المجتمع الإسلامي، لابد من الاهتمام بها والعمل على تحقيقها.
إنَّ مشكلات الحياة المعاصرة في المجتمع الإسلامي كثيرة، ومتشابكة، يفرضها الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وتتطلب جميعُها بيانَ حكم الشرع الحنيف، وتستدعي الرأيَ الإسلاميَّ الرشيد المستند إلى الفهم الصحيح لمقاصد الشريعة، وإلى الوعي المتبصر بقضايا العصر ومشكلاته.
وأمام هذا الوضع، فإن الاجتهاد في عصرنا لا يمثّل حاجةً، بل ضرورةً للمجتمع الإسلامي الذي يريد أن يعيش بالإسلام. وأكثر من ذلك فإن الاجتهاد اليوم ليس جائزاً فحسب، بل هو فرضُ كفايةٍ على المسلمين، مثل كل فروض الكفايات التي بها قوامُ أمر الدين والدنيا، بحيث إذا تَوَافَرَ من يقوم بها ويسدّ ثغراتها بكفاية وجدارة، سقط الإثم عن سائر الأمة، وإلاّ أثمت الأمة كافّة(24).
وتتسع مجالات الاجتهاد لتشمل القضايا والمسائل التي لم يرد نصّ عليها في القرآن أو السنّة، كما تشمل النصوص التي تحتمل الظنية في ثبوتها أو دلالتها(25).
ومن هذا المنطلق الذي يقوم على القواعد الشرعية الكلية، ومن خلال هذا المنظور الشمولي، نرى أن مجالات الاجتهاد وقضاياه وموضوعاته، تتسع وتمتدّ بحيث تشمل كلَّ شأن من شؤون الحياة الإسلامية، وليس فحسب الشؤون الفقهية بالمعنى الاصطلاحي الضيّق، والشؤون القانونية بالمفهوم المهني المحدود، وإنما تشمل الشؤون السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والطبية والبيئية والتربوية، وكلَّ ما يهمّ المجتمعَ الإسلاميَّ في حاضره ومستقبله.
إنَّ الأمة الإسلامية تواجه اليوم تحدّياتٍ ومشاكل كثيرةً في جميع ميادين الحياة، ولا سبيل إلى مواجهة هذه التحدّيات والمشاكل، إلاّ باَلرأي السديد والعلم الصحيح المستندين إلى فهم سليم للنصوص، واجتهاد مستنير ينقل الأمةَ من حالة الضعف والتخلف، إلى حالة القوة والتقدم، في إطار الحرص على تحقيق المصالح العامة، ومراعاة مقاصد الشريعة التي هي للتيسير على الناس ودفع الحرج عنهم. قال تعالى : {وما جعل عليكم في الدين من حرج}(26)، وبهذا يتم تأكيد صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.