الاجتهاد في الإسلام من خلال قواعده الأصولية العلمية ومقاصد الشريعة الإسلامية
"مكان الاجتهاد في الإسلام وفي الشرائع الوضعية":
1- الاجتهاد هو المصْدر الرابع من مصادر الشريعة الإسلاميَّة بعد "الكتاب" و"السُّنة" و"الإجماع"، كما هو معروف، ويُعبَّرُ عنه أيضًا باسْم "القياس" أو "العقْل" أو "الرأْي"، باعتبار أنَّ كلاًّ من هذه الثلاثة ما هو إلا أداة من أدوات الاجْتهاد.
2- وإذا كان "كولد زيهر" (Goldziher) المستشرق الألماني الكبير، قد أُعْجِبَ كلَّ الإعجاب من كون "الإجماع" الاجتهادي أصْلاً من أصول الشريعة الإسلاميَّة ومصادرها، وعبَّرَ عنه فقال: "إنه ينبوع القوَّةِ التي تجعلُ الإسلامَ يتحرَّكُ ويتقدَّم بكلِّ حريَّة"[1]، فإنه يجدُ بلا شكٍّ في المصْدر الرابع - وهو الاجتهاد - أنَّه العقْلُ الساهر على نموِّ الشريعة وازدهارِها، والذي يطردُ العُقْمَ من قواعدِها وتُهْمة الجمود في طبيعتها"؛ وذلك لما كان للاجتهادِ على اخْتلافِ مذاهبِه في الشريعة الإسلاميَّة مِن رصيد عِلْمي جبَّار لا مَثيلَ له في تاريخ فِكرة الحقِّ ومحتويات مكتباته العلميَّة العالميَّة، ومِن آراءٍ فقهيَّة مُصْلِحَة سامية لا عهْدَ للأممِ الحيَّة بمثلها في تاريخ الإنسانيَّة، ومِن مَذاهب تتحكَّمُ فيها أولاً وآخِرًا قواعدُ العلْمِ والمصلحة الزمنيَّة الشرعيَّة ضِمْنَ مبادئ الحقِّ والعدْل والإنْصَاف، مِن غير تمييزٍ فيها ما بيْن إنسان وإنسانٍ، مَهْمَا اختلفتِ الأجْناسُ والأعْراقُ والأدْيَان.
وذلك كلُّه مما قد تفرَّد به "الاجتهادُ الإسلامي"، وجَعَلَ الشريعةَ الإسلاميَّة تستجيبُ دَوْمًا - وفي كلِّ الأحوال - للحاجات الإنسانيَّة المتطورة مع الأزْمَان.
3- هذا ولا تستبينُ أهميَّة "الاجتهاد" في الإسلام، واعتباره مصدرًا أساسًا من مصادر الشريعة الإسلاميَّة، وتفوُّقها به على غيْرها من الشرائع، وخاصة الشرائعَ الوضعيَّة القديمة والحديثة المتطورِّة - إلا باستعراضٍ وَجيزٍ جدًّا لموقفِ هذه الشرائع من الاجتهاد.
4- أمَّا الاجتهادُ عند الرومان، فلمْ يكنْ مَعروفًا في العهْد الملَكِي، بل كانتِ الشريعة سرًّا من أسرار الكَهَنَة ورجال الدين، ولم يصبحْ مَصْدرًا مِن مَصادر الحقوق، إلا في حقْبة صغيرة من الزمن، وذلك في عهْد الجمهوريَّة الذي نشأَ بعد انْهيار النظام الملَكِي، ولكن عهْد الإمبراطوريَّة لم يلبثْ أنْ حلَّ محلَّ العهْد الجمهوري، وأخذَ القياصرة فيه بتضييق نِطاق الاجتهاد شيئًا فشيئًا إلى أنْ حصروه في أنفسهم، وقَضوا بذلك عليه نهائيًّا، ولم يبقَ منه - وخاصة منذ تقنين "جوستنيان" - إلاّ ما كانَ من بابِ "الشرْح للنصِّ القانوني والحمْل عليه"؛ مما أصبحَ أساسًا جرَت عليه الطريقةُ التقليديَّة في الحقوقِ الحديثة في القرْن التاسع عشر.
5- غيْر أنَّ علماءَ الحقوق الحديثة قد أخذوا في مَطْلع القرْن العشرين يَشْعرون بفَسَاد الطريقة التقليديَّة، التي دَرَجَ عليها علماءُ القانون حتى أواخر العصْر التاسع عشر، والتي كانوا يعتبرون بموجبِها الحقوقَ المكتوبة - أي القوانين - هي وحدَها المصدر الأول للكشفِ عن كلِّ حُكْمٍ حقوقيٍّ ضروريٍّ لحاجات الحياة الاجتماعيَّة. وهكذا فقد قال أصحابُ الطريقة التقليديَّة حولَ مدوَّنة "نابليون" وما تَبِعها من القوانين: "إنَّ التشريع الرسمي يكفينا وحدَه للكَشْفِ عن جميع الأحْكَام الحقوقيَّة الضروريَّة لحاجات الحياة الاجتماعيَّة"[2]، وكانَ مِن أبطالِ هذه الطريقة التقليديَّة عميد كلية الحقوق في باريس الأستاذ "بلوندو" (Blondo)، حيث صرَّح في مُذَكِّراته إلى مجمع العلوم الأخلاقيَّة والسياسيَّة سنة 1841م بأنَّ المصدرَ الوحيد في الوقت الحاضر للأحْكام الحقوقيَّة إنَّما هو القانون[3].
6- ولذلك فهنالك اليومَ إجماعٌ على أنَّ القوانين أو ما يسمُّونه باسْم: الحقوق المكتوبة، هي وحدَها المصدرُ الأوَّل والأخير للكشفِ عن كلِّ حُكْم حقوقيٍّ ضروريٍّ لحاجات الأمة الاجتماعيَّة، وبناءً على هذا فقدْ أقْصَى من مصادر الحُكْم ما سموه باسْم: المصادر غير الصحيحة، وقد عَدُّوا في مُقدمتها الاجتهادَ وحِسَّ العدالة وفِكرة المصلحة العامة[4].
ونَرَى مِن كلِّ ما تقدَّم أنَّه ليس في هذه الشرائع - قديمِها وحديثِها - من اجتهادٍ غيْرَ نوعٍ منه، وهو تفسير القانون أو ما يُعبَّر عنه بكلمة: "إنتر بريتاسيون" interpretarion، وحرّمَ على المفسرين كلَّ اجتهادٍ يتجاوزُ حدودَ التفسير للقانون، وهذا ما جَعَلَ من هذه الشرائعِ شرائعَ زمنيَّة غيْرَ قابلة للاستمرار، وعُرْضَة للتغيير والتبديل في أصولها على الدوام.
7- أما الشريعة الإسلاميَّة، فإنَّ الاجتهاد فيها:
• قد اعْتُبرَ أولاً: من جملة مصادر الشريعة الصحيحة إلى جانبِ نصوص القرآن الكريم والأحْكَام النبويَّة، وذلك كلَّما سكتتْ نصوصُ هذين المصدرين أو غمضتْ.
• كما أنَّه ثانيًا: لم يقتصر الاجْتهاد على تفسير النصوص فقط في حالة غموضها، بل عملَ عملَه الصحيحَ أيضًا في حالة سكوتها.
• وثالثًا: فقدْ أبدعَ المجتهدون في الاجتهاد، ومَيَّزوا في الجملةِ ما بيْن ثلاثة أنواع منه، ووضعوا لكلِّ نوعٍ قواعدَه العلميَّة المنطقيَّة؛ ليميِّزوا بها ما بيْن الآراء المقبولة اجتهادًا، والأهواء المرفوضة عِلْمًا وقضاءً، كما سنشيرُ إليه فيما بعد، وهذا مما قد عجزَ عنه الفقه الوضعيُّ الحديثُ رَغْمًا عن محاولاته المتكرِّرة لوضْعِ قواعدَ للتفسير والاجتهاد؛ مما قد عجزوا عنه حتى اليومَ، كما سنراه أيضًا فيما بعْد.
وفوقَ ذلك، فقدْ رفعتِ الشريعة الإسلاميَّة من مكان الاجتهاد في القَبول والاعْتِبار، وحضَّت عليه بكلِّ قوةٍ فقالتْ: "للمجتهد أجران إذا أصابَ، وأجْرٌ إذا أخطأ"، وفي هذا مُنْتَهى التقدير لحريَّة الرأْي والاجتهاد كمصدرٍ صحيحٍ للشريعة، في الوقت الذي حَرَّمتِ الشرائع الوضعيَّة القديمة والحديثة أنْ يكونَ الاجتهادُ مصدرًا من مصادرها.