أيضاً: أجمع العلماء على أن العقل ليس مصدراً من مصادر التشريع، ليس بشرع وليس بدليل، فالأصوليون اتفقوا جميعاً على أن الحكم هو خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو الترخيص أو الوضع. كما انعقد إجماعهم بل إجماع المسلمين أجمعين على أن العقل ليس بشارع؛ لأنه لا حكم إلا لله تعالى، حتى المعتزلة الذين جعلوا للعقل دوراً في تقرير بعض الأحكام اتفقوا على أن العقل كاشف عن الحكم الشرعي، وليس بمنشئ له. يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم فإنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية أو معينة في طريقها، أو محققة لمناطها، أو ما أشبه ذلك لا مستقلة بالدلالة؛ لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع. وجاء في كتاب (فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت) مسألة: لا حكم إلا من الله تعالى بإجماع الأمة لا كما في كتب بعض المشايخ أن هذا عندنا، وعند المعتزلة الحاكم العقل، يعني: هو هنا يقول: إنه لا حكم إلا من الله تعالى بإجماع الأمة، ويرد على بعض المشايخ الذين قالوا: إن أهل السنة عندهم لا حكم إلا لله، بخلاف المعتزلة الذين يقولون: إن الحاكم هو العقل، فهو هنا يدافع عن المعتزلة، ويقول: لا، بل كل الأمة حتى الفرق الضالة كالمعتزلة يوافقوننا في هذه القاعدة مثل ما قلنا: إن العقل كاشف للحكم، وليس منشئاً له كما قال المعتزلة. يقول: مسألة: لا حكم إلا من الله تعالى بإجماع الأمة لا كما في كتب بعض المشايخ أن هذا عندنا، وعند المعتزلة الحاكم العقل. انظر إلى التعليل يقول: فإن هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعي الإسلام. يعني: هل يوجد واحد ممن يدعي الإسلام يجترئ ويقول: إن العقل حاكم، أو العقل مشرع، فهو هنا يدافع عن المعتزلة، وينفي أنهم يعتقدون أن العقل منشئ للأحكام. يقول: مسألة لا حكم إلا من الله تعالى بإجماع الأمة، لا كما في كتب بعض المشايخ أن هذا عندنا، وعند المعتزلة الحاكم العقل، فإن هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعي الإسلام، بل إنما يقولون: إن العقل يعرف بعض الأحكام الإلهية سواء ورد بها الشرع أم لا، وهذا مأثور عن كبار مشايخنا أيضاً. وفي كتاب (دروس في تاريخ الفقه) للشيخ فرج السنهوري : لا حاكم إلا الله، ولا حكم إلا ما حكم به، على اتفقت كلمة المسلمين، حتى الذين قالوا: إن للأفعال حسناً وقبحاً عقليين، أي: يدركهما العقل، إذ أنهم لم يذهبوا إلى أكثر من اتخاذ الوصفين أساساً لحكم الله سبحانه يصدر على موقفهما، فالعقل لا دخل له في إنشاء الأحكام وإصدارها، وإن كان هو شرط التكليف، وله أعظم الأثر في فهم الشرع. فالله جل وعلا قد قصر إنشاء الحكم عليه وحده عز وجل، قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [يوسف:40]، وقال تعالى: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26]، وقرأ ابن عامر من السبعة: (ولا تشرك في حكمه أحداً) بصيغة النهي، والخطاب متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى عموم المخاطبين، أي: ولا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله عز وجل، بل أخلص الحكم لله من شوائب الشرك، وهذا كله مما يؤكد الحقيقة أن السيادة للشرع لا غير.